الثلاثاء، 14 أبريل 2015







نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان








صقر الليل




كنا خمسة متجهين إلى القاهرة فى سيارة أجرة ساعة الغروب .. والتقطنا السائق جميعامن محطة ( سيدى جابر ) بعد أن تحرك القطار من المحطة ..
وكانت آخر راكبة هى سيدة شابة تحمل حقيبة بنية متوسطة الحجم .. ظلت مترددة فى الركوب ترقب السيارة من بعيد برغم الحاح السائق وسمسار العربات .. فلما وجدت سيدة من جنسها تفتح باب السيارة بصحبة زوجها .. ذهب عنها التردد وركبت ..
واضطررنا بعد ركوبها مراعاة للذوق أن نغير محلاتنا جميعا .. فجعلنا الوافدة الجديدة تستريح فى المقعد الخلفى بجوار السيدة الاخرى وزوجها ..
وأصبحت أنا وشاب قاهرى نحيل سمين الخدين قد ترك شعره ينمو بغزارة فى المقعد الأمامى بجوار السائق ..
وانطلقت السيارة فى جو مشحون بقيظ النهار ولهيبه ، على خلاف الحالات فى شهر مايو حتى تخففنا من ملابسنا من أول النهار واكتفينا بالقمصان المفتوحة والبنطلونات الصيفية ..
وكنا نقدر أن السيارة ستمضى بنا فى الطريق الزراعى وعلى الأخص ونحن نواجه الليل طوال المسافة ، ولكن وجدنا السائق ينحرف بنا إلى الطريق الصحراوى ، وأفهمنا فى أدب وأسف أن جهاز التنبيه عنده معطل ولو سار فى الطريق الزراعى فسيأخذ مائة مخالفة من رجال المرور ، وأشفقنا عليه من الغرامة وتركناه يمضى على سننه ..
وكنا فى بداية الشهر القمرى ، والسفر فى الصحراء متعة فمن يمين وشمال ستنقلب الرمال فى ضوء القمر الشاحب إلى تبر منثور .. ويصبح الحصى الصغير حبات من الزمرد ..
ويا للجمال الوحشى عندما يتوئب غزال أو يمرق ذئب .. أو تقطع الطريق قافلة من الجمال وهى تتهادى رافعة أعناقها وهادرة فى غضب الحليم إذا حثها راعيها على السير حتى لا تعطل الطريق ..
ولكن كل هذه الأحلام الذهبية طارت من رؤوسنا عندما اقتربنا من البحيرات ، وزكمت انوفنا رائحة الطحلب والحشائش المتعفنة ..
وخرج إلينا الصبية فى أكثر من موضع يعرضون البيض والفاكهة فى سلال صغيرة وكانت السيدة السمينة تريد أن تتوقف السيارة لتشترى منهم .. ولكن زوجها زجرها بلطف فدفنت رغبتها فى أسف ..
وعندما مالت السيارة إلى اليسار واستوت على طريق القاهرة الرئيسى .. أخذت تسرع فى سيرها لتعوض ما فات من تباطؤ بسبب ما كان يعوقها فى الطريق الملتوية ..
وكانت الرؤية لا تزال واضحة والليل لم يجثم بعد .. وكان الشاب النحيل الجالس بجانبى ثرثارا بطبعه .. فلما وجدنى لا أجاوبه على ثرثرته أخذ يحادث السائق .. ثم أخذ يلوى عنقه ليحادث الركاب الثلاثة فى الخلف .. وفى الوقت عينه يرى أثر الحديث فى وجوههم وبدا مرحا وإن كان يتكلف الفكاهة والإضحاك ..
ولكن السيدتين انجذبتا إليه وتفتحتا له .. وفى أقل من ربع الساعة منذ ركوبنا عرف أن السيدة الوحيدة ذاهبة رأسا إلى مطار القاهرة لتنتظر قادما من الخارج .. وأن السيدة السمينة وزوجها كانا فى زيارة قصيرة فى الإسكندرية لمناسبة فرح ..
وعندما حول رأسه إلى اليمين ليسألنى ألجمته بنظرة قاسية .. وكأنه ما تلقى الصفعة فقد طفق يتحدث ويتحدث .. وظلت عيناه لفترة طويلة مثبتة على المرآة التى أمام السائق حيث بدا فيها وجه السيدة الوحيدة بكل تقاطيعه الجميلة .. وكل ما فيه من سكون وتألق ..
وكانت الحرارة الشديدة التى اكتوينا بها فى النهار .. قد جعلتها ترتدى فستانا قصير الأكمام فوق الركبة وحذاء مكشوفا من غير جورب .. كما أن وجهها الوردى كان يبدو متأثرا بالحرارة إلى أقصى مدى ..
وكان التعبير الوحيد من جانبها عن احساسها بالجو الخانق أن فتحت شفتيها تستجير من الرمضاء ، وتحاول أن ترطبهما بعد أن جف الرضاب ..
وقدمت السيدة السمينة التى كانت ترتدى جونلة كحلية وبلوزة بيضاء بيدها البضة جرعة ماء من الترمس للمسافرين جميعا قبل أن تتذوق قطرة ، فشكرناها بقلب حار ..
وأخذنا مع جذب السيارة ودفعها للهواء نحس بانكسار موجة الحرارة قليلا ..
ودخلنا فى الغسق وأحسسنا بجمال الليل فى الصحراء وسكونه وزاد من روعة المنظر القيود المفروضة على أنوار السيارات الذاهبة والرائحة بسبب الحرب ..
***
وبدأ القمر الصغير يميل ويختفى ومالت رؤوسنا على المقاعد .. وأغفى السيد وزوجته .. وألقت السيدة الوحيدة رأسها إلى الوراء واسترخت ..
وهبت موجة باردة خفيفة انعشتنا بعد أن تفسخت نفوسنا من الحرارة ..
وأخذت السيارة تسرع مع الريح التى بدأت تحرك الرمال الساكنة كأنها تخوض فى البحر ..
وكان جارى قد انطلق يتحدث مع السائق عن غارات اسرائيل الجوية على القاهرة وضواحيها ..
ولما بدأ يتحدث عن الغارة على الأطفال فى مدرسة ( بحر البقر ) لكزته فى ركبته ليصمت فصمت .. وتلفت إلى الخلف لأعرف هل سمعته السيدتان أم لا .. وكنت اقدر تأثير هذا الحديث المعذب على السيدات والأمهات على الأخص فحمدت اللّه لما وجدتهما نائمتين ..
وكانت السيدة الوحيدة قد مدت ذراعها اليسرى على المسند فلمحت خاتم الزواج فى الأصبع ، وساعة ذهبية رائعة تتألق بسوارها الذهبى فى العتمة الشاحبة ..
وظللت لحظات أدير رأسى إلى الوراء دون وعى منى مع ما لفعلى هذا من خفة لا تليق برجل فى الخمسين فقد وجدت جمالا نائما أسرنى وجذب نظراتى فى وضعه الحالم ..
وكان الشاب يدخن فى شراهة وقدم لى سيجارة فقبلتها رغم أن نفسها لا استطيبه ، وأعطى مثلها للسائق وأصبحنا نتخبط فى الليل على الطريق المرصوف والرمال من حولنا داكنة .. والظلام يطبق برواقه .. وأنوار السيارات أخذت تقل .. فمن الذى يسافر فى ليل بدا نهاره كلهب الجحيم ..
كانت سيارات الشركة الطويلة تترنح على الطريق .. وفيها ربع ركابها.. ثم انقطع سيلها تماما ..
ودخلنا فى الظلمة الشديدة .. وكانت تلمع عن بعد فى جوف الصحراء بعض البنايات الجديدة المجاورة لزرع الصحراء وتحولها إلى خضرة نامية ..
***
وكانت الرمال الصفراء تبدو نائمة فى العتمة .. لا تسفيها الريح اللينة ولا تحركها .. إن مثل هذه الريح لا تحرك القلاع فى البحر .. ولكن تحرك الزرع فى الصحراء ..
بدت المزارع على الجانبين رغم الظلام مرة فى الجانب الشرقى وأخرى فى الجانب الغربى ، مزارع البطيخ والكروم التى أكسبت الأرض الجرداء نضارة وكستها بالبساط الأخضر .. والمياه تتحرك فوق الزرع بالرشاشات كأنها تغسل منها أوضارها فى النهار .. منظر جميل يشد لب المسافر ويحرك مشاعره ..
ومن خلال العين الفاحصة للجو والطريق الخالى وسير العربة .. قدرت أن السائق الذى تجاوز الأربعين من عمره وأكسبته السنون خبرة سيبلغ بنا الاستراحة بعد ساعة على الأكثر وبعد ساعتين اخريين سندخل شارع الهرم ..
وفجأة حدث شىء لم يكن فى تقديرنا قط .. شىء ارتجف له قلب السائق .. فقد انقطع النور عن العربة .. وأصبحت مصابيحها الخلفية والأمامية ميتة ليس فيها حياة ..
***
وتوقف السائق فى جانب ليفحص الأسلاك على ضوء بطارية ثم عاد يائسا .. ورأى أخيرا أن يتحرك فى الظلمة ببطء ولا يتوقف ..
ولكنا كنا نحس بعد كل حركة فى هذا الظلام الشديد بالخطر .. وشاع فينا اليأس إلى درجة أن أكثرنا تفاؤلا ارتجف .. وأصبح الطريق الاسفلتى الذى كان يضاء فى الليل بالفوسفور مظلما وكئيبا وموحشا كأنه طريق المدافن ..
وأصبحت الصحراء الواسعة اضيق فى نظرنا من سم الخياط .. ولم نشعر فى حياتنا بكآبة وضيق كما شعرنا فى هذه الساعة القاتلة ..
***
وعلى ضوء النجوم سرنا فى الصحراء بحذر شديد وتمهل أكثر كلما التوت أمامنا الطريق ..
وكلما تقدمنا خطوات شعرنا بالكآبة أكثر ، وخيمت علينا الظلمة ولفتنا فى دثارها الأسود حتى خرجنا أكثر من مرة عن الطريق المرصوف ، وأصبحنا كالحجر الذى يرمى به من فوق الجبل ولا يدرى فى أى مستقر يهوى ..
وجاءت من الطريق المضاد سيارة ضخمة كادت تسحقنا .. وشعرنا بالخطر الداهم .. فلابد من التوقف حتى يطلع النور وشاع فينا رعب الموت وانقلبت السيارة فى نظرنا إلى عربة من عربات الموتى ..
وأخيرا فكر السائق فى حل عندما وجد طريقا مرصوفا إلى الشمال .. وقال لنا إن مديرية التحرير على بعد دقائق .. وهناك يستطيع أن يصلح كهرباء السيارة .. ونمضى كما كنا .. وسار فى هذا الطريق الجديد فعلا ..
وظللنا أكثر من اربعين دقيقة نمضى فى قلب الصحراء طوعا لرأى السائق وأمله .. وكان بعد كل نصف كيلو متر يقدر أننا وصلنا إلى المديرية ..
وتحملناه بصبر وجلد حتى لا نثير أعصابه إذا اعترضنا على خط سيره .. فيسوقنا إلى الردى ..
وعلى منعرج فى الطريق لاح شبح رجل وبصر به السائق فتوقف عنده يسأله عن مديرية التحرير ..
وسمعنا الرجل يقول له وقد بدا على وجهه الأسف لحالنا :
ـ المديرية ليست من هنا .. ارجع من حيث أتيت ثم خذ الطريق الآخر ..
وأخذ الرجل يوضح للسائق بدقة كيف يسير فى الطريق الصحيح وهو يشير بيده كأنه يرسم على الرمال خريطة للطرق .. وفى الوقت نفسه أخذت عيناه المتقدتان فى الظلمة تحاول أن تتوضح الراكبين فى السيارة .. وكنا جالسين فى صمت وعيوننا متجه إلى زيه العربى وقامته الطويلة وتقاطيع وجهه الجامدة .. وبدا لنا من وقفته المنتصبة رغم الشيخوخة قويا موفور العافية ..
ورغم الصرامة التى طالعتنا من وجهه فقد كان صوته يوحى بالطيبة المطلقة ..
ووقف السائق بجانب السيارة يدير رأسه ويتأمل الأمر فى حيرة أرعبتنا ..
وقال الرجل الوقور الذى كان لا يزال واقفا على الرمال لما علم بأن السيارة تدلف من غير مصابيح ..
ـ تفضلوا اشربوا القهوة فى بيتى واستريحوا إلى الصباح .. لأن سيركم فى الليل وأنتم على هذه الحالة سيعرضكم للمخاطر ..
ولا أدرى من منا الذى سأله على الفور :
ـ وهل البيت قريب .. ؟
ـ على مدى خطوات قليلة من هنا ..
وقال السائق :
ـ تفضل اركب معنا لترينا السكة ..
ـ شكرا .. أن معى جمالى .. فسيروا وراء الجمال ..
وغاب عنا فى الظلمة .. وصاح فى جوف الليل .. وبرزت ثلاثة جمال ضخمة فى لون الرمال ، ولم تكن أبصارنا قد وقعت عليها من قبل ودفعها الرجل أمامه حذاء الطريق وهو يلوح بقطعة جلدية قصيرة ويقول شيئا كالغناء ..
وأسرع وراء الجمال مهرولا ونحن خلفه بالعربة وقد تجمدت مشاعرنا وكنا فى حالة يأس قاتلة فلم نستطع أن نعتذر للرجل أو نرفض ضيافته .. وعلى أسوأ الأحوال فقد لمسنا فيه بعيوننا الفاحصة خلق العربى وشهامته ..
***
ووقف بنا على باب بيت من طابق واحد مبنى بالآجر الأحمر ليس من البيوت الكبيرة وكانت طاقاته الصغيرة تبدو عالية فى نظرنا أكثر مما رأينا مثلها فى البيوت ..
وأدخلنا الرجل فى المضيفة وتقدمتنا السيدتان فى خجل ظاهر وكانت السيدة الوحيدة أكثر خجلا .. فى ردائها القصير .. حتى رأيت خديها على ضوء السراج الخفيف يلتهبان جدا وتبدو شرايينها الدقيقة وقد فارت دفعة واحدة بالدم القانى ..
وجلسنا على الحشيات الناعمة من جلود الاغنام وضعت فوق الاحرمة والحصر فى شبه دائرة ، وعيوننا تحدق فى بعضنا البعض فلأول مرة نتلاقى مواجهة ..
ولاحظ الرجل أن الحشية الواطئة قد كشفت سيقان السيدتين وأفخاذهما بصورة واضحة حتى اضطرتا إلى الجلوس منكمشتين .. فجاء لهما بالوسائد واستراحتا فى الجلسة وغطت السيدة الوحيدة سيقانها الناعمة بوشاح وردى أخرجته من حقيبة يدها .. ففعلت الثانية مثلها على التو ..
وتنفسنا الصعداء جميعا فقد بعدت عن عيوننا الفتنة فى الليل الساكن ..
وشعرنا بالهدوء فى الداخل والخارج .. والخوف الذى كان قد ساورنا من طلعة الرجل الجامدة ونحن فى السيارة قد تبدد الآن تماما .. ونحن فى داخل بيته ..
وفى أثناء احتساء القهوة أدركنا أن الرجل الذى أصبح فى نظرنا منذ هذه اللحظة ( صقر الليل ) فى البيت وحده .. ربما كانت اسرته فى مكان آخر فى هذه الساعة .. أو ربما لم تكن له أسرة على الاطلاق .. كما أن بيته لم تكن حوله بيوت ..
وقدم لنا كل ما عنده من طعام .. وجلسنا جميعا حول المائدة .. وكان السائق أكثرنا شراهة فى الأكل .. والسيدة الوحيدة أقلنا ..
وشعرنا بعد الطعام برباط قوى يربطنا بالرجل ..
***
ولما حل ميعاد النوم .. وفى البيت حجرتان فقط .. اقترحنا أن تستريح السيدتان فى حجرة .. وينام صقر الليل فى فراشه فى الحجرة الأخرى كالمعتاد ..
ولكنه رفض هذا العرض وقال إنه يترك الحجرتين لضيوفه .. وسينام فى الفناء .. وبعد حوار طويل استقر أمرنا على أن نترك حجرة للزوج وزوجته.. والحجرة الأخرى تنام فيها السيدة الوحيدة ..
ونضطجع نحن الثلاثة أنا والشاب والسائق مع صقر الليل فى الفناء ..
***
ونهض الزوج وزوجته ودخلا الحجرة وكان على وجه الزوجة السرور بهذه القسمة العادلة ..
وقامت السيدة الوحيدة بعدهما وهى تحيينا فى خفر ..
وفرش لنا ( صقر الليل ) فى رحبة البيت ما بقى عنده من حصر وأحرمة ورد الباب ولمحت فى المدخل عندما رفع ذراعه ليخفف من ضوء السراج ثلاث بنادق معلقة فى الحائط وخنجرين وسيفا بغمدة واستدار الصقر نصف دورة ليطمئن على راحتنا جميعا ثم اضطجع فى مدخل البيت ..
***
وكان التعب قد نال منا جميعا .. فأخذنى النوم .. بعد أن وضعت رأسى على الوسادة .. وأنا أسمع زفيف الريح فى الخارج ..
وكان الشاب على بعد أذرع قليلة منى نائما وبجواره السائق الذى نام كالقتيل من فرط ما قضاه فى نهاره كله من جهد وعذاب ..
وتيقظت على صوت فى هدأة الليل أشبه بعواء الذئب .. فتحركت فى فراشى ولما فتحت عينى لمحت على ضوء السراج الخافت .. أن جارى الشاب ليس فى مكانه .. فخطر فى بالى أنه نهض ليقضى حاجة ..
وتيقن هذا الخاطر .. عندما أحسست به يرجع بعد وقت قليل إلى فراشه ويتمدد كما كان ..
ثم لفنا الليل .. وأحسسنا بتغير الجو ولفحة من برد الصحراء أخذت تهب فتغطيت ونمت ..
وقبيل الفجر سمعت صرخة .. تنبعث من داخل حجرة السيدة الوحيدة .. ثم انقطع صوتها وخيم السكون من جديد ..
***
وكان ( صقر الليل ) بالخارج فشاهدنى متيقظا وهو يدخل ويرد الباب .. فقال بصوته الهادىء :
ـ لا شىء .. استرح .. كما كنت .. أنه صوت الذئاب .. حرك الجمال فى أعطانها ..
وكان وجهه وصوته رغم جمود ملامحه ينمان عن شىء جرى فى هدأة الليل يقينا ولكنه لا يريد أن يفصح عنه ..
ولما لم أعرفه شعرت برعشة .. تسرى فى بدنى كله ..
***
وقبل الشروق نهضنا على عجل .. وسبقنا السائق إلى سيارته ..
وكان ( صقر الليل ) يود أن يستبقينا للإفطار ولكننا اعتذرنا له بشدة .. وركبنا نحن الأربعة ووقفت السيارة تنتظر الخامس ..
وقال صقر الليل من عتبة الباب .. لما وجدنا لم نتحرك بالسيارة ..
ـ إن الشاب سبقكم منذ ساعة .. ركب سيارة كانت عابرة .. فلا تنتظروه ..
ثم تقدم إلى السيدة الوحيدة وهو ينظر إلى عينيها الحزينتين ووضع فى يدها الساعة الذهبية ..
وقال بصوت خافت :
ـ لقد نسيت هذه داخل الحجرة ..
واسود وجهها وهى تتناول الساعة ..
***
وتحركت بنا السيارة فى صمت .. ولم يجرؤ واحد منا طوال ما بقى من الطريق على أن يفتح فمه ويوجه كلمة إلى سيدة متزوجة ربما كانت ذاهبة إلى لقاء زوجها .. ولا أدرى أكانت تصرخ عندما سمعت صرختها فى الليل لتبكى على الشاب .. أم على الساعة ..
================================
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد اغسطس 1970 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
================================



ليلة العاصفة

فى شارع جانبى بحى عابدين تطل لافتة الدكتور " وحيد " الطبيب المعروف ..
كانت العيادة فى الدور الأول من بناية قديمة تصعد إليها سلالم حجرية تآكلت من أحذية الصاعدين إلى الطبيب والنازلين من عنده .. فقد كان الرجل محبوبا كثير الرواد ..
ورغم أن زملاءه فى المهنة والأقل منه كفاية وشهرة رفعوا أجر الكشف من خمسين قرشا الى جنيه ثم الى جنيهين وثلاثة .. وضاعفوا كذلك من أجر زيارة المرضى فى المنازل ..
فإنه ظل ثابت الأجر .. لم يغيره منذ فتح العيادة واستقر فى هذا الحى ..
كما لم يغير نهجه فى العلاج .. ولا بشاشته فى لقاء المريض ..
كان الرجل فريدا نادر الصفات فى جو مشحون بالجشع وروح الاستغلال .. ولذلك اصطفاه الجمهور ، وتقاطر عليه حتى كان يرهقه بالعمل المتصل دون أن يأخذ راحته الكافية .. وبعد الجهد المضنى والارهاق الشديد فى المساء كان يفكر أكثر من مرة فى تقليل ساعات عمله حتى يستروح نسمات الراحة التى يتطلبها كل إنسان .. ولكنه عندما يشرع فى التنفيذ يجد نفسه فى اليوم التالى ودون أن يشعر قد بذل من جهده أضعاف ما بذل بالأمس ونسى نفسه تماما حتى أوغل فى الليل ..
وكان فى العيادة حجرة مخصصة لانتظار السيدات .. وأخرى للرجال ولكن فى الأمسيات بين السادسة والثامنة على الأخص يكون الزحام على أشده فيحدث الاختلاط بين الجنسين على صورة مريحة لأعصاب المنتظرين ..
وتجلس السيدات فى الكراسى الخالية فى أماكن الرجال .. كما يجلس الرجال فى الأماكن المخصصة للسيدات ..
وكان " التمرجى " توفيق لا يضطرب لهذا الزحام لأنه يتبع نظاما دقيقاً رسمه له الطبيب ويعامل الناس سواء .. فكل مريض فى دوره .. فلا يشعر الفقير بالهوان والمذلة فى عيادته لأنه فقير.. ويتخطاه الغنى .. وإنما الجميع سواء .. فلا فضل للابس بدلة على لابس الجلباب .. ولا للابسة الجونلة القصيرة على المرتدية الملاية اللف ولاشىء اسمه مخصوص ..
وثلاثة أرباع المرضى من طبقة الشعب ومن النساء .. لأنهن أضعف من الرجال فى احتمال الألم .. فيطرن من أول عارض الى الطبيب .. وكثير منهن وعلى الأخص العصبيات كن يجعلن صبر الطبيب يكاد ينفد فهن لا يعملن بنصيحته ولا يتبعن نظام العلاج الذى وصفه لهن .. ويجأرن دوما بالشكوى .. ولكنه كان يضبط أعصابه ويعود يلمس موضع الألم ببراعة عديمة النظير ..
ومرت الحياة بهيجة فى نظر الطبيب .. وكان عمله المتصل يضفى على حياته بهجة أكثر ..
ولأنه اجتماعى بطبعه فقد كان كثير الاتصال بالناس ، وكون من محيط عمله أصدقاء له .. كان يسره أن يتحدث معهم فى شئون الحياة ..
وكان مغرما بالقراءة نهما .. ومطلعا دوما على كل ما جد من الطب وترد إليه المجلات العلمية والأبحاث الطبية من الخارج .. ولكنه ورغم اشتغاله بعمله كطبيب واستغراقه المطلق فيه كان يقف على كل ما يدور فى الانسانية من أحداث .. وسر جدا لمحاولات اكتشاف الفضاء والتقدم العلمى الباهر فى هذا المجال .. وكان يؤمن بأن المستقبل للعلم وللعقل البشرى .. وكان يتطلع إلى المشهورين من الأطباء .. وتجد فوق مكتبه صورة كبيرة لتشيكوف وكان معجبا به لأنه طبيب مثله وانسان قبل كل شىء .. ويود لو يذهب مثله إلى جزيرة " سخالين " .. وكان يعتقد انه توجد أكثر من قرية مصرية تشبه جزيرة " سخالين " .. فاذا ذهب إلى واحدة منها .. فقد أشبع رغبته .. كان يود أن يذهب إلى هناك ويقضى بقية حياته فى الريف يعالج الفقراء مجانا ..
***
وكان متزوجا من سيدة جميلة من مدينة المنصورة .. وكانت تحب عمله وتعينه برقتها المتناهية وأنوثتها على تحمل مشاق العمل ..
وتتلقاه فى نهاية اليوم بصدر حنون ..
وفوجئ ذات ليلة بنوبة قلبية جاءتها فجأة دون أية مقدمات وكادت تقضى عليها لولا لطف الله ..
واحتار فى سبب المرض .. ونجت من الموت .. ولكن تغير نظرها للحياة .. وأصبحت من وقتها حذرة تعد كل خطوة تخطوها . كانت تخاف من الموت وتود أن تعيش بجانب الرجل الذى أحبته بكل قلبها .. تعيش الفترة التى تجعلها تأنس به وتسعد بنجاحه فى عمله .. وأصبحت تعيش على المنهج الذى رسمه لها زوجها الطبيب لا تحيد عنه قيد أنملة .. وشحب لونها .. وغاض ماء الشباب من عروقها .. وعجز هو عن أن يرد لها حيويتها السابقة .. وابتسامتها العذبة .. وكان يحزن لأنه كطبيب لم يستطع أن يصنع لها شيئا يردها إلى حالتها الأولى قبل أن تداهمها النوبة ..
خيم الحزن عليها لأنها شديدة الحساسية وآلمها أكثر من أى شىء أنها تسبب الحرمان لزوجها من الشىء الذى يتطلبه كل رجل ..
وكان الدكتور " وحيد " يعرف مقدار ما هى عليه من حساسية .. فازداد حنانه لها .. وعطفه عليها حتى لا يشعرها بأنه ينقصه شىء ولكنه كان يتألم لمرضها .. وزاده ألما أنها لم تتقدم قط بل كانت حالتها فى كل يوم تزداد سوءا ..
وتألم لها جدا ..
وانعكس هذا الألم الممض على حياته كطبيب فى العيادة واضطرب حاله ففكر فى أن يرفع الأجر حتى يقلل من المترددين ليستريح ثم فكر فى أن يشتغل فى الصباح فقط ..
وكان كلما شرع فى تنفيذ هذا لا يطاوعه قلبه لأنه مناضل بطبعه وكون علاقات .. انسانية .. متأصلة بينه وبين عملائه .. وأحب فى دوامة عمله الحياة .. فاذا اختصر جزءا منها .. فكأنه يقطع ، بسكين من لحمه ودمه ..
***
ومرت الأيام ..
وذات ليلة من ليالى الشتاء دخلت العيادة سيدة بيضاء سوداء الشعر متأنقة طويلة العود ملفوفة فى معطف داكن وكانت فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمرها وعلى وجهها الشحوب وكانت تشكو ألما شديدا ، وصداعا مزمنا لا تعرف سببه ومع أنها جاءت متأخرة .. وفى الوقت الذى تغلق فيه العيادة .. ولكن " التمرجى " تأدبا منه أدخلها إلى غرفة الكشف ..
واستقبلها الدكتور وحيد ببشاشته رغم أنه كان فى أشد حالات التعب و أحنى لها رأسه محييا ..
وبعد أن استمع إلى ما تشكو منه .. أخذ فى فحصها .. قاس الضغط وضربات القلب وفحص الرئة .. والصدر ونظر فى العينين .. ولم يجد أى علة ..
ورأى أخيرا أن يفحص اللوزتين .. والحلق .. وفتحت فمها ..
وبدت أسنان نضيرة متناسقة تلمع كصف من اللؤلؤ المنظوم .. وفم صغير دقيق يضم شفتين رقيقتين عليهما خط خفيف من الاحمر المصنوع .. ولكن التماع الشفتين الطبيعى يدل على وفرة العافية .. وجريان الدم فى الشرايين ..
ولاحظ الطبيب بوضوح توتر أعصابها ..
وسألها بعد أن لم يجد علة فى اللوزتين ..
- أتأخذين منوما .. يا هانم ..
- نعم ..
فقال فى هدوء :
- أنه سبب الصداع ..
- وكيف أنام .. من دونه ..
ورفعت عينيها إليه .. ولاحظ فى أثناء هذه الحركة ما فيهما من حزن ..
ولم يجد الدكتور " وحيد " بعد الفحص الشامل أى مرض فيها على الاطلاق ..
وكان بتجاربه يعرف أنه لو قال هذه الحقيقة .. فستخرج من عنده وتذهب إلى طبيب اَخر .. لأنها لن تقتنع بكلامه .. ولذلك جلس إلى مكتبه ، وكتب لها دواء زهيد الثمن وشرح لها طريقة تعاطيه وهو يقدم لها التذكرة ..
وسألت فى صوت ناعم جدا :
ـ وأجئ ثانية ..
ـ إذا أحسست الألم يعاودك .. تفضلى ..
واستطرد :
ـ المسألة بسيطة وستحسين براحة تامة بعد الدواء ..
وعادت بعد أربعة أيام تشكو نفس الألم ..
                                  ***                                 
وبدت فى هذه المرة أكثر شحوبا ..
وأطال الفحص .. وأكثر من توجيه الاسئلة اليها عله يدرك سبب الصداع .. وكتب لها تذكرة الدواء ..
***
وبعد أسبوع جاءت .. وكانت ممتقعة اللون متوترة الأعصاب .. فاضطر أن يعيد الكشف بدقة أكثر .. وعجب لها .. إذ لم يجد أى علة ظاهرة ..
وتكررت زيارتها وكان يشفق عليها من الأجر الذى تدفعه فى كل مرة .. دون موجب ثم أخذ يرفض أخذ نقود منها .. ويفهمها أنه لا مرض فيها على الاطلاق .. وأنه عليها أن تذهب إلى طبيب أعصاب ..
فقالت له أنها ذهبت إلى كل الأطباء وأنه مامن دواء نفعها .. وأنها تعيسة .. والمرض يشقيها .. فأخذ يهون الأمر عليها بكل ما فى جبعته من وسائل ، ولاحظ من كثرة ترددها ونظراتها إليه شيئا لم يفهمه .. وأخذت تدق جرس تليفونه فى المكتب وتسأله عن أشياء لتجد سببا للمحادثة ..
وأخذت تفيض معه بالحديث عن خصوصيات حياتها وعرف أن زوجها مريض منذ سبع سنوات وأنها لاقت العذاب فى تمريضه وأنها ذهبت الى كل المستشفيات وأنه الآن قعيد البيت لا يتحرك من غرفته ..
وسمع هذا الكلام بهدوء .. وأخذ يحادثها بلطف ويتمنى له الشفاء .. ويهون عليها الأمر ويقول لها أنه عارض طارىء كثير الحدوث فى الرجال المثقلين بالأعمال .. خصوصا الذين يقومون بأعمال المقاولات الكثيرة مثل زوجها ..
وكلما حادثته فى التليفون بعد ذلك .. كان يتلقى محادثتها بلطف .. واذا أطالت لم يقصر وتركها تأخذ راحتها فى الثرثرة ..
وكانت تجىء فى مساء كل اثنين فى الساعة الثامنة تماما وتبقى فترة الكشف .. التى تأخذ حوالى ربع الساعة .. ولاحظ بريق عينيها وهى تحادثه وصفاء بشرتها وأنها تبدو مبتهجة ..
ووجد نفسه يميل إليها ويترقب قدومها .. كان يرقب يوم الاثنين كأنه يوم راحة .. كانت تعيش فى حياته .. وتعمق احساسه بالحياة وتجعله اكثر انسانية واكثر اشراقا واكثر استقبالا لكل مضايقات المرضى ..
كان عطرها يظل فواحا بعد أن تبارح غرفة الكشف .. يظل فى خياشيمه وملء رئتيه وصورتها أمام بصره .. كان يحس بها تروح وتجىء معه إلى البيت .. ونسى زوجته المريضة ..
وكان وهو يقود سيارته يحس بها بجانبه .. وقد جعله هذا الاحساس يتعذب ..
أنه يؤدى عمله بأمانة منذ عشرين سنة ولم يدخل عواطفه فى عمله قط .. لم يلق السواد على صفحته .. وهذه نقطة سوداء فى حياته كطبيب .. ويجب عليه أن يمسحها فى الحال .. ويقطع علاقته بهذه المرأة قبل أن تجره الى مأساة ..
شعر لأول مرة فى حياته بالعذاب .. كان لا يريد أن تشوب سمعته شائبة .. من عشرين سنة وهو يعمل فى هذا الحى أمينا مخلصا لعمله .. وينظر إلى المرأة نظرته إلى الرجل .. لم يتحرك قلبه قط لأى انثى تدخل العيادة ولكن هذه حركت قلبه ، واستحوذت على نفسه .. وكادت تعصف بارادته ..
فى كل مرة تجىء فيها إلى العيادة .. كان يفكر فى صدها ولا يجعل للضعف سبيلا إلى قلبه ..
قرر أن يستمر على النهج الصارم الذى رسمه لنفسه ولا يسمح لها بأن تنفذ من الدائرة التى احاطها بعمله كطبيب ..
ولكنه عندما يقع بصره عليها .. يتخاذل وينجذب بلحمه وبدمه .. وكل ذرة فيه .. كان سلطانها لا يقاوم ..
كانت صافية لون البشرة ملساء .. وجسمها فى نعومة الحرير .. وفى صوتها نغمة حزينة كانت تعصف بمشاعره .. كان يرثى لحالها وتحول الرثاء إلى عاطفة مشبوبة ..
كان يجلس ساعات طويلة وهو كالمأخوذ يفكر فى شىء واحد أن يقطع هذه العلاقة بأسرع ما يمكن ..
ولكن الذى أثلج قلبه أن علاقته بالمترددين على العيادة غدت أكثر شفافية .. وزوجته المسكينة المريضة رفيقة حياته التى قاست من ألمها .. هل يقتلها الآن بفعلته النكراء ماذا يكون مصيرها لو علمت ..؟
كان من عادته كل ليلة بعد أن يخرج من العيادة أن يتجول بسيارته نصف ساعة على طريق الكورنيش .. كان يسير من شارع جامع جركس .. ومن وراء الانتكخانة ينحرف الى اليسار ..
ويسير متمهلا .. ينظر إلى الجزيرة على الشط الآخر وهى تتلألأ بالأنوار .. كان منظر الليل الساحر يسحر لبه .. وكان الظلام والنور .. والخضرة والاشجار المعتمة ، وظل المساكن المضيئة فى النهر والماء الجارى .. كانت كل هذه ترسم صورة باهرة أمام حسه ..
وكان يخرج من السيارة .. ويركنها فى جانب ويتمشى ليريح التعب من جسمه المكدود وأعصابه المرهقة بالعمل ..
وبعد هذه التمشية كان يحس بأنه استرد عافيته ..
كان يحب الليل بأنواره الخافتة ثم ينطلق إلى بيته فى الزمالك بعد أن يأخذ كمية من الهواء المنعش ويمتع بصره بمنظر الليل ..
وكان يشتغل يوم الجمعة فى الصباح فقط ، ويجعله للفقراء دون أجر على الاطلاق ..
وفى يوم الوقفة التى قبل العيد كان يشتغل ايضا .. فى الصباح .. والمساء .. على أن يفرغ يديه من عمله قبل الساعة الثامنة مساء لأنه تعود أن يذهب مع أسرته فى صباح العيد المبكر بالسيارة الى المنصورة ..
***
وفى أمسية وقفة عيد الأضحى وهو يتهيأ للخروج فوجىء بدخول " سعاد " هانم غرفة الكشف ، وكانت ذابلة ووجهها يحاكى وجوه الموتى ..
فجزع جدا لمرآها على هذه الصورة .. وحادثها قليلا وطمأنها .. ولكنها كانت متخاذلة جدا ..
وجلست على الكرسى .. ورأى شفتيها ترتجفان وعينيها يذهب سوادهما .. ومالت برأسها كأنها تسقط .. فأسرع إليها وهو مضطرب للغاية .. وسندها بكتفه ولاحظ أنها ذاهبة فى غيبوبة فحملها إلى كنبة الفحص .. وهى تتعلق بعنقه وتقترب منه وأنفاسها تمتزج مع أنفاسه ووجد نفسه يحتضنها .. ثوان لم يحس بها ولم تحسب فى عمر الزمن .. انتهى الزمن بالنسبة لكليهما .. ورآها مسبلة عينيها وأنفاسها لاهثة .. فكاد يطبق على شفتيها بشفتيه ولكنه حول وجهها عنه وهو يرتجف ويصرخ فى أعماقه ..
ووضعها على الكنبة وأخذ يدلك يديها .. وأعد لها حقنة الكورامين سريعا .. وكان يخشى أن يدخل عليه التمرجى .. وهى على هذه الحالة ..
واستفاقت بعد دقائق وهى تنظر إليه بعينين ذابلتين ، وقالت له فى ضراعة كل ما فى قلبها .. اعترفت له بحبها له ولماذا تتردد على العيادة وقابل عبارتها بجفاء لم تكن تتوقعه وتناولت حقيبتها واتجهت إلى الباب وقد قررت ألا تراه بعدها أبدا .. وكلف التمرجى أن يأتى لها بتاكسى ليوصلها إلى منزلها ، ووقف صلدا وخرجت صامتة منفعلة .. كأنها تلفها العاصفة ولما مرت به ارتجف وأحنى لها رأسه ..
ثم جلس على المكتب وهو فى دوامة من الأسى وخط على ورقة طويلة أرقاما رفع فيها أجر الكشف فى العيادة والمنزل إلى الضعف ووضع الورقة فى جيبه ليعطيها للخطاط بعد العيد ..
***
وعندما هبط السلم .. وخرج إلى الشارع ليقود سيارته .. كان لا يدرى كيف يسير ويقود السيارة ..
كان الجو كئيبا .. والأنوار كلها شاحبة أمام بصره ..
وعندما خرج من شارع جامع جركس ودار فى ميدان طلعت حرب ليتجه فى شارع الانتكخانة .. وانحرف إلى اليسار ليدخل إلى شارع الكورنيش .. أحس بشيء رهيب يلف السماء فى سواد داكن .. سواد كأنه قطع من الليل وتراقصت المصابيح أمام بصره ثم احتجبت ..
وهبت عاصفة رملية .. وهى تصفر وتعول عويل الغيلان فى الأجم .. وأوقف السيارة بجانب الرصيف ووضع رأسه على عجلة القيادة وأغلق عينيه .. دخل فى الظلمة الرهيبة ..
كان فى مكان يحجبه عن مهب الريح سور عال وملتف .. وحمد الله لأنه وقف هناك وتوقف كل شيء لما توقف ولم يعد يسمع إلا زفيف الريح .. وهى تعصف بالأشجار العالية وتحرك النوافذ المفتوحة وترج الأبواب ..
ومن خلال زجاج نافذة السيارة لمح ثوبا نسائيا تعبث به الريح .. وامرأة واقفة ترتجف بجانبه على الرصيف ..
وحدق فيها فى الضوء الشاحب وتذكر أنه بصر بها أكثر من مرة واقفة فى هذا المكان كل ليلة .. وهو ينحرف بسيارته إلى الكورنيش ..
كانت تقف فى إغراء لمن يلتقطها بسيارته فى وحشة الليل ، ولم يكن يعيرها باله من قبل رغم جمالها وشبابها .. ولكن فى هذه الليلة وجد نفسه يدخلها سيارته .. ليقيها من العاصفة الشديدة ..
نظرت إليه فى استكانة لم يكن وجهه السمح يخيفها كانت تعابير عينيه وما فيهما من انسانية توحى إليها بالاطمئنان المطلق ..
وظلا صامتين .. حتى انقشع الغبار ووجدته يخرج ورقة من جيبه ويمزقها .. كانت الورقة التى كتبها فى العيادة ليرفع الأجر .. وحرك موتور السيارة ..
ولم تسأله إلى أين يتجه ولكنها اقتربت منه وهو يسير متمهلا فى الشوارع الخالية ..
وعبر كوبرى قصر النيل ، واتجه إلى الجزيرة وأحس أنه لا يستطيع أن يسير .. فمال بالسيارة حذاء الرصيف وظل يحادثها ساعة وأحس بثقل رأسه فأغفى وهو يعتمد على الدركسيون ..
حدقت فيه وهو نائم والليل يسدل أستاره .. والعاصفة تمزق أوراق الشجر وتكسح كل ما فى الطريق .. وزجاج السيارة مغشى .. ودوامات الهواء تلف حاملة الرمال والأوراق الصغيرة ، ورأت فى جيبه الملاصق لها حزمة من أوراق البنكنوت موضوعة دون عناية .. كان قد وضع ايراد اليوم فى جيبه كعادته إذ لم يكن يضعه فى محفظته ..
وفكرت فى أن تتناول هذه النقود وتتسلل إلى الخارج .. فهى أكثر من كل ما يعطيه لها أى رجل .. فكرت فى هذا ولكن عندما نظرت إلى وجهه الانسانى لم تستطع فعل هذا .. وظلت بجواره ساهرة حتى استيقظ ..
========================= 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 5058 بتاريخ 28/10/1967 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
==========================





















الخفــيـر



      كانت المحطة تقع بجانب بستان الشيخ " عرفان " أكبر البساتين فى المنطقة على الاطلاق .. وفى مواجهتها ترعة الإبراهيمية وفى الشرق والجنوب تمتد المزارع وأشجار الجميز والسنط وعلى امتداد البصر تبدو حقول القمح المحصودة .. والذرة المزروعة حديثا .. والأرض الجرداء الملاصقة للجبل الغربى ..
      ويبدو من هنا وهناك شريط ضيق بين المزارع ينحدر حتى مجرى النيل ويلتف ويدور صاعدا حتى المحطة ..
     وكانت المنطقة آمنة .. فقد تحول الناس بكل طاقاتهم إلى العمل والكفاح فى سبيل الرزق ونسوا حياة الفراغ والجهالة فيما سلف من الأيام ..
     وكانت المحطة مع صغرها معروفة وكثيرة الحركة لأنها المتنفس الحديدى الوحيد لعدة قرى متقاربة فى الصعيد ..
     وكانت مشهورة أكثر من أى شىء بخفيرها " سليمان " وهو شيخ متوسط الطول حاد البصر ..
       كان له فى شبـابه تاريخ حافل بالتصدى لرجال الليل وقطاع الطرق ، فلما طعن فى السن وترك المزارع والوابورات إلى المحطات .. عاش من وقتها على صيته القديم فلم يطلق رصاصة واحدة طوال حياته فى السكة الحديد ..
     وكان يؤدى عمله اليومى بأمانة عديمة النظير .. فيحب المحطة وناظرها وعمالها ودخان قاطراتها وكل ما فيها من جماد كأن كل هذه الأشياء قطعة من جسمه ..
***
     وتحرك كعادته كل صباح على الرصيف يرقب عربات البضاعة والعمال يحملونها بالأكياس .. وهم يثرثرون ويغنون .. ولاحظ حركة السيمافور المفتوح على خط القاهرة .. لمرور الاكسبريس .. فجلس على كتلة من الخشب ينتظر مروره .. طاويا البندقية بين رجليه .. وأشعل سيجاره وأرسل عينيه السوداوين إلى ما وراء الترعة .. وكانت الشمس قد ارتفعت وضوؤها يبهر الأبصار .. وغمرت صفرتها المحطة وكل ما يحيط بها فبدت المزارع والمياه والبساتين وحتى الرمال التى تبدو من بعيد فى الجبل ، مكتسية بلون الأرجوان ..
      وأخذت الريح تهب لينة مداعبة اوراق الشجر .. وصفحة المياه وأعشاش الطيور .. وبدت السيارات الكبيرة المحملة بالبضائع والركاب تثير الغبار على الجسر ..
     وفاض سيل الحياة المتدفق فى دائرة قطرها ثلاثة أميال على الأقل فدارت وابورات الطحين والسواقى والطنابير .. وأخذ الفلاحون يعزقون الأرض ويفلحونها .. ويسوقون المواشى إلى مرابطها فى أطراف الحقول ..
     ولاحت أشرعة المراكب من بعيد فى وهج الشمس وهى تتحرك ببطء فى النيل فقد كانت الريح لينة والقلوع لاتشيل ..
     وقبـل أن يمر قطـار الاكسبريس .. سمع الناظر رنين جرس التليفون .. فدخل المكتب .. وقبل أن يرد عليه قطع ورقة من النتيجة نسى أن يقطعها الفراش وهو ينظف المكتب .. فظهر يوم 5 يونيو .. بخط كبير وجلس يتلقى من محطة المنيا محادثات هامة عن تحرك القطارات وشغل فى مكتبه عما يدور فى الخارج .. وظل العمال ومن فى المحطة فى عملهم الصباحى المألوف ..
      وأزت فجأة طائرات فى الجو .. ثلاث طائرات صغيرة كالنسـور مرت فى سـماء المحطة وهى منطلقة بأقصى سرعتها .. وتطلع إليها العمال .. وأوقف الفلاحون حركة المذارى فى أجران القمح .. وحولوا وجوههم عنها فقد أخذ الهواء يعصف ويدوم ويطير التبن فى عيونهم من فعل الضغط ..
       وحدق " سليمـان" الخفيـر .. فيها طويلا حتى غـابت عن
بصـره واحتوتها السماء .. وبدت بعدها السماء صافية وفى زرقة ماء البحر ..
     وتصور من فى المحـطة أنها طائرات مصرية فى طريقها إلى أسوان .. ولكنهم عرفوا بعد قليل من الاذاعة .. أن اسرائيل هجمت فى جبهة سـيناء والطائرات مغيرة .. ووجم " سليمان" قليلا لما سمع الخبر ، ولكن ما عتم أن صفت نفسه ولانت ملامح وجهه .. فقد كان على يقين من النصر ..
     وأخذ يسترجع فى ذاكرته كل ما سمعه ورآه .. من مواقف البطولة التى وقفها المصريون وهم يقاتلون الأعداء فى الزمن القريب والبعيد ..      ورجع إلى ميدان المعركة وكان عالم الرؤية يبسط أمامه المواقع فى الجبهة .. تذكر هذا كله .. فرأى الجيش المصـرى بكل فرقه بمشـاته ومدرعاته ودباباته وطائراته يتقدم صوب اسرائيل لسحقها ..    
   وظلت الصورة فى رأسه مبهجة تهز المشاعر .. حتى سمع همسا فى العصر يدور .. على ألسنة الناس .. فارتعش بدنه .. ولكن شجاعته لم تبارحه ويقينه من النصر لم يتزعزع .. فلم يصدق الخبر وغضب غضبا شديدا وكاد يحطم كل متحدث به حتى ناظر المحطة نفسه ..
     وفى الليل ظل جالسا وحده .. ينظر إلى الحقول .. ويسمع حركة القطارات وقد أطفأت أنوارها ..
     وكانت أسلاك البرق تهتز فوقه ، والظلام يخيم على القرى والمزارع والمحطة غارقة فى الظلام .. خيم جو الحرب بسرعة ..
     وكانت صفحـة النيـل هى الوحيـدة التى تلوح بيضـاء فى هذا
السواد ..
      وخرج ناظر المحطة من مكتبه .. منفعلا يغلبه التأثر وقد أحس بمثل السكين تغوص فى قلبه .. وقال بصوت يرتعش من الغضب .. اتهزمنا إسرائيل .. يا شيخ " سليمان " ؟ !.. يا للعار .. نتراجع ياللعار .. فلنقاتل حتى الموت .. لنعيش كراما ..
     وتجهم " سليمان " .. وأخذ يهدىء من روع الناظر .. ويعده بتحول الحال .. وظلت الأفكار تلاحقه .. أيذهب هو الى الجبهة .. إن ولديه حسن .. وعبد الرحيم .. هناك .. أيذهب هو أيضا ؟ .. إن زوجته قادرة على رعاية الأسرة فى غيابه ولكنهم لايقبلون تطوعه .. فهو شيخ قارب على الستين .. يكفى ولداه .. وقد يقتلان ولكن قبل أن يقتل أى واحد منهما سيقتل عشرة من الصهيونيين على الأقل .. ويكفيه هذا فخرا .. وسيكون النصر .. والشجاعة توحى بالإيمان والأمل ..
     ظلـت الأنبــاء عن المعركة متضـاربة .. حتى الساعة التاسعة ليلا ..
     وفى الساعة العاشرة وقف قطار يحمل الجنود الذاهبين إلى المعركة .. فسرت انتفاضة فى جسم " سليمان " .. وأخذ يرحب بهم .. ويشعل فيهم نار الحماسة ..
     وبعـد أن تحرك القطـار .. أحـس بصوت عجـلاته يدوى فى قلبه ..
***
     وخيم السكون على المحطة .. وكان الظلام تاما فى كل مكان .. وعـاد صوت الطائرات فى الجو .. وصوت المدافع المضادة يسمع من بعيد ..
      وسمع " سليمان " أن طيارا هبط بالمظلة بعد أن أصيبت طائرته قريبا من قرية تل العمارنة .. واختفى فى الحقول .. وأخذ البوليس يطارده .. وانتصف الليل ولم يعثروا له على أثر .. وازداد القلق والتوتر واشتعل رأس "سليمان".. وأخذ يرسم فى رأسه الدائرة التى يمكن أن يختفى فيها هذا الطيار .. بعد أن طارده البوليس بخيله ورجاله .. ووضحت الصورة فى ذهنه ..
     واعتقد أن القدر وضع فى طريقه حدثا جللا بعد كل هذه السنـين الطويلات المدد ليمتحن قدرته على القتال ..
***
     ظل يعيش متنبه الحواس حتى الهزيع الأخير من الليل .. وكان على يقين من أن الطيار سيظل فى مخبئه لا يبارحه .. ثم يتسلل قبل نور الفجر ليذهب إلى الجبل .. أو إلى المدينة ويغيب فى زحمة الناس .. بعد أن يخفى مظهره ..
***
      وبارح سـليمان المحطة فى خفة الثعلب وتسلق شجرة ملتفة داخل
 بستان الشيخ عرفان .. وكمن فيها .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه ..       وفى حوالى الساعة الرابعة صباحا سمع حفيفا واهنا بين أوراق الشـجر .. فتسمع ومد بصره .. فرأى شبحا يتحرك بحذر ناحية الشرق .. وتوقف الشبح ليأمن طريقه قبل التحرك .. كان الخوف يزيده يقظة فى كل خطوة .. ورأى " سليمان " عينيه تتوهجان فى الظلمة كما تتوهج عينا الثعبان وهو خارج من جحره .. ومال برأسه إلى اليمين مادا عنقه كما يفعل الثعبان تماما ..
     وأدرك " سليمان " دقة الموقف وخطورته .. لو تنبه الطيار المذعور إلى وجوده .. إن الذعر سيجعله يبادر بالحركة ..
     لقد حانت الساعة ليهاجمه .. وإلا فلتت منه الفرصة إلى الأبد .. وانتظر " سليمان " لحظات حابسا أنفاسه .. ثم هبط إلى الأرض .. يزحف على بطنه .. من جانب وجاعلا ظهر الطيار إليه .. حتى أحس بانفاسه وظل ملتصقا بالأرض يشتم ترابها ويده على زناد البندقية ..
     وأطلق الطيار أولا .. أحس وهو مرعوب بأن شيئا خطرا وراءه فاستدار سريعا وأطلق .. ثم دوى الرصاص .. من الجانبين .. بعنف فمزق سكون الليل .. ونبحت الكلاب بشدة .. وجرى الناس على صوت النار .. ووجدوا على بصيص النور الذى لاح مع نور الفجر "سليمان" يستدير لمواجهتهم والدم ينـزف من كتفه ..
     وتحت شجرة ضخمة .. يرقد الطيار الصهيونى ساكنا وقد مزق جسمه الرصاص ..



====================================   
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية فى 9|5|1968 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " 1971
====================================



 
التمثال

اسمه " مختار " وتحسبه من لهجته أجنبيا مع أنه مصرى صميم .. ولا تدرى من أين اكتسب هذا الطابع .. الأنه يقيم فى حى كان معظم سكانه من الأجانب أم لأنه لم يذهب أبدا إلى مدرسة مصرية .. وعلى أى حال فإن مظهره لم يكن له تأثير على مجرى حياته ..
فقد عاش حياة رتيبة خاملة .. ككثير غيره من البشر ..
وهو لا يقوم بأى عمل يقوم به الرجل فى حياته .. وكان ضخم الجسم له شعر طويل مسترسل وسحنة جامدة .. وعينان داكنتان منطفئتان وصوت أجش منفر ..
وإذا تحرك فى الطريق اندفع بصدره إلى الأمام اندفاع الثور .. وهو يتخطى الشارع من رصيف إلى رصيف ..
وكثيرا ما يحلو له أن يسير فى عرض الطريق ملوحا بذراع واحدة وقد ارتدى حلة رمادية طويلة السترة لا يغيرها فى صيف ولا شتاء .. وتراها دوما منتفخة الجيوب بأشياء كثيرة لا قيمة لها ..
وكان عزبا .. يجلس فى " قهوة " صغيرة بحى قصر النيل فى قلب القاهرة روادها من العزاب مثله ومن لا عمل لهم على الإطلاق .. ويعيشون من إرث بسيط أو حصة فى الوقف .. أو من إيجار بيت قديم .. عيش الكفاف .. عيشة مرة ضحلة ..
ويراه زبائن " القهوة " جالسا فى بكرة الصباح فى ركن معين لا يغيره أبدا .. وحوله سماسرة البيوت يروحون مع الزبائن ويجيئون منذ الشروق وقد اتخذوا من " القهوة " مستقرًا لهم .. فى فترة عصيبة اشتدت فيها أزمة المساكن حتى أمسكت بالخنادق وفى حى يكثر فيه تأجير الشقق والغرف المفروشة .. وحتى الغرف المخصصة للغسيل فى سطوح العمارات الكبيرة ..
وكانت القهوة عبارة عن حانة صغيرة أكثر منها " قهوة " وفيها بعض المأكولات الخفيفة .. كالبطاطس المحمرة .. والكبدة .. والكفتة .. والمكرونة .. والجبنة .. وصاحبها يونانى عجوز يديرها هو وزوجته بعناية تامة ..
ويشتغل فيها جرسون واحد فى الصباح والمساء .. وفراش ينظف " القهوة " ويمسح أحذية " الزبائن " ..
ومع أنها قديمة جدا .. وندر أن يتجدد فيها شيء كالطاولات والكراسى .. فقد ظلت نظيفة وجلستها تريح الأعصاب .. وهى مشمسة فى الشتاء .. وتهب عليها طراوة منعشة كطراوة هواء البحر فى الصيف من التيار الهوائى الذى يتولد من العمارات العالية التى تحف بها ..
وقد وصل الحال بصاحب القهوة على مدى السنين الطويلة التى عاشها فى القاهرة إلى مرحلة الاستكفاء .. فأصبح كالاسفنج المشبع إلى أقصاه بالماء .. فليس فى حاجة لأن يمتص شيئا آخر ..
ولم يفكر فى تهريب أمواله .. ولا مغادرة هذا البلد الطيب وأصبح قانعا برزقه اليومى الذى يأتيه الآن ورضى به وظل يتحرك ويعنى بالقهوة ولا يهملها قط وستزيد من زبائنه ..
وكان " مختار " من أقدم الزبائن وأرسخهم قدما .. فهو يأكل ويعيش فيها كأنها بيته .. ومنذ ثلاثين سنة وهو يفعل ذلك ..
وقد بلغ الآن مرحلة الخمسين من عمره .. ولكن من يراه يحسبه فى الأربعين لأنه لا يشغل فكره بهم ولا شيء هناك ينغص عليه حياته الرتيبة ..
ولا يعنيه إلا ملء بطنه من الطعام والجلوس مسترخيا فى " القهوة " ..
وكان قد تزوج وهو فى سن الخامسة والعشرين من عمره من فتاة لطيفة .. ولكنها لم تطق عشرته .. وهربت من بيت الزوجية فى الشهر الثالث من الزواج .. ولم يقع لها على أثر .. ولا يدرى حتى الساعة إن كانت قد فرت مع شخص أحبته أم ماتت وطواها الثرى .. نسى كل شيء عنها .. وإن ظل الحادث قابعا فى أعماق نفسه ..
ولم تكن المدة القصيرة التى عاشها معها تجعله يذكرها بخير ..
ولم تكن فيه خاصية تحبب إليه النساء .. بل كانت فيه كل الصفات المنفرة .. فهو بطبعه قليل الكلام ثقيل الظل جامدا لا تضحك له سن ..
***  
       وكان يسكن فى غرفة فى الطابق الثالث بشارع الشيخ " فضل " بعد أن ترك شقته الجميلة التى تقع فى نفس الحى لرجل ضحك عليه وأغراه ليبادله بشقة رخيصة قريبة جدا من القهوة وفيها مصعد ..
       وكان يكره جارته وطلوع السلم ففرح بذلك التبادل ولكن الرجل الشيطان احتال عليه .. أخذ منه شقته ولم يعطه الشقة البديلة كما اتفقا .. وصرخ واشتكى ولكن ما من مغيث فاضطر أن يسكن فى هذه الغرفة .. مع أرملة لها ولدان تقيم فى شقة من غرفتين .. وكان يدفع لها أربعة جنيهات فى الشهر وأثث الغرفة من عنده .. ولم يكن بينه وبين هذه الأرملة أية علاقة أكثر من علاقة المستأجر ..
       وكان بطبعه صارم الملامح منطويا فلم تجد فيه المرأة ما يجذبها إليه .. رغم ما هى فيه من وحدة .. وضياع .. ولكن مع كل صفاته فإنها ما كانت ترفض طلبا لو تقدم وعرض عليها الزواج ..
       وكانت تخشاه أكثر مما تخشى ولديها الصغيرين ..
       فلم تكن تستطيع أن تأتى برجل إلى بيتها ..
       وكان مخيفا حقا .. وضخامته جعلته أكثر مهابة ، ومن يراه وهو يتحرك بصدره يتصور أنه يدفع به الريح العاصف ..
***
       وحدث فى عصر يوم من أيام الصيف وكان يعبر شارع " طلعت حرب " كعادته فى غير المكان المخصص لمرور المشاه .. فاستوقفه العسكرى فلم يذعن وجرى فى الطريق .. فأسرع العسكرى وراءه ليلحق به .. وكانت مطاردة مثيرة تنبه لها الجمهور .. وأخذ يصيح :
-      حرامى .. حرامى ..
وبعد عدو تقطعت فيه الأنفاس .. تجمع العساكر وأمسكوا به وقادوه إلى نقطة البوليس ووراءه حشود من الخلق الذين لا عمل لهم والذين يهللون لهذه المناظر المثيرة ..
واحتجزوه فى النقطة لأنه لا يحمل بطاقة ، ولا أية أوراق تدل على شخصه .. وأخذ يبكى منذ دخل الحجز إذ لم يكن يقدر أن الأمر سيتطور إلى هذا الحد من البشاعة ..
وسمع بعض من كان فى " القهوة " فى هذه الساعة بما جرى " لمختار " فذهب أحدهم ومعه صاحب " القهوة " نفسه إلى النقطة وأخرجوه ..
وعندما رجع وجلس على " القهوة " فى مكانه المعتاد .. تجمع حوله الصبية الذين شاهدوا المنظر المثير من قبل وأخذوا فى معاكسته .. فانطلق يشتمهم .. ويلعنهم .. ولكنهم لم ينصرفوا عنه فأخذ يرجمهم بما يقع فى يده .. وتطور الحال به حتى أنه أمسك بزجاجة " جعة " وأخذ يلوح بها فى وجوههم فطاروا مذعورين ..
***
وأثر الحادث على نفسه فجلس صامتا مكتئبا كأنه ضرب على رأسه بساطور ..
وكان من يعرفه فى القهوة قد أدرك حاله فتركوه يجتر أحزانه وحده لأن الحديث معه فى الأمر سيزيده ألما على ألمه ..
وظل حتى بعد أن غربت الشمس ودخل الليل مكتئبا مغموما .. جامد النظرات شارد اللب ..
وتحرك فى الشارع ثم رجع بعد ساعة ليشرب بضع كؤوس من الخمر بعد أن أحس بأن رأسه سينفجر ..
ثم خرج من القهوة وأخذ يضرب فى الطرقات على غير هدى .. أخذ يذهب ويجيء فى دائرة قصر النيل وهو يرقب المارة وواجهات الحوانيت .. ولمح فى شارع " شواربى " امرأة تتسكع فى الشارع الذى أخذ نوره يخف بعد أن أغلقت الدكاكين .. ولما اقترب منها نظرت إليه نظرة لم يشاهدها من قبل فى عين أنثى فاقترب منها أكثر فنظرت إليه برقة .. وأخذت تسأله عن الساعة وأشياء أخرى ..
تشجع وحادثها وبعد حديث قصير قبلت أن تصاحبه إلى غرفته ..
ومرا على بقال فابتاع منه أشياء كثيرة حملها فى كيس .. وانطلق إلى البيت وهو يشعر بفرح غامر ..
***
       وصعد درجات السلم سريعا .. والمرأة وراءه .. وكان يمكن أن يدخل بها غرفته دون أن تشاهده الأرملة لأن الغرفة جانبية .. ولكن لسوء حظه كانت الأرملة جالسة فى الصالة فى هذه اللحظة .. وأحست به وهو يدير المفتاح فى الباب .. ويدخل ووراءه المرأة ..
       وفوجئت صاحبة البيت بهذا المنظر .. إذ منذ اقامته معها لم يحدث أن فعل مثل هذا قط ..
       وصرخت فى وجهه وشتمته .. وهى تشير بيدها إلى الخارج وقد تنمرت سحنتها :
-      بره .. أنت والهانم .. بره ..
وأحس بأنه أهين أمام رفيقته .. فلطم صاحبة البيت بعنف .. فلطمته مثلها .. فجن جنونه وأمسك بها ليخنقها .. فانفلتت منه وتناولت تمثالا نحاسيا على طاولة قريبة وضربته بعنف على رأسه .. فسقط مغشيا عليه ..
ولما أفاق وجدها جالسة بجانبه تمسح عنه الدم برقة .. وفى عينيها الأسف والحنان ..
وأحس بشيء جديد بدأ ينسج خيوطه حولهما .. منذ هذه اللحظة ..

========================= 
نشرت القصة فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
=========================


فى الليل وحدى

غادرت الإسكندرية فى ليلة مظلمة من ليالى ديسمبر بسيارة صغيرة ومكشوفة وكانت الريح الباردة تعوى والجو كله ينذر بالمطر والعواصف .. ولم يكن من السفر بد فى هذه الليلة .. وقد خفت البرودة من سيل العربات فى الطريق .. ولكن المقطورات الضخمة كانت تلوح من حين إلى حين .. ومصابيحها القوية تغشى الأبصار ..
وسرت على نهج واحد لا أغيره .. بسرعة لا تتجاوز ستين كيلو مترا فى الساعة إذ لم يكن هناك ما يدعو إلى الإسراع .. كما أنه كان من عادتى حتى فى أسهل الطرق إلا اسرع أكثر من ذلك فى الليل .. اتقاء للحوادث .. وإشفاقا على العربة القديمة التى لم يجدد محركها منذ سنوات طويلة ..
وأخذت بصبر واحتمال لكل تقلبات الجو أتلقى الريح العاصفة .. وهى تدوم وتصفر بين فروع الأشجار على جانبى الطريق .. وذيولها تمسح مزارع البرسيم الخضراء وغيطان الكرنب والخس واللفت وتلونها بلون رمادى أشهب ..
وعلى مدى البصر تبدو القرى غارقة فى العتمة ويتصاعد منها الدخان ويخيم عليها الشجر الملتف والنخيل السامق ..
أحسست بعمق السكون من حولى فلم أكن أسمع صوت إنسان ولا حيوان ..
وكنت فى كثير من الساعات أشعر بأنى مالك زمام الطريق وحدى ..
وكان دوى المحرك يختلط مع أزيز الريح فيخيل إلىَّ أن العربة تخوض فى بحر لجى من الظلمات ..
وكان الطريق الزراعى فى تلك الليلة الحالكة السواد .. ساكنا ولكنه لم يكن موحشا وحشة الطريق الصحراوى فشعرت فيه بالائتناس وبأن عيون القرى تنظر إلىَّ من بعيد وتحنو على ..
كما أن الأكشاك الصغيرة المتناثرة على مراحل فى الطريق والتى تبيع السجائر والشاى للسائقين .. وكذلك محطات البنزين كانت كلها تؤنس المسافر وتبعد عنه الإحساس بالوحشة ..
وحتى فى سواد الليل وعتمته لا تعدم فلاحا يسوق أمامه جاموسة ويعبر بها الطريق .. أو تشاهد على البعد أشباحا من قوافل الفلاحين داخلة القرى تسوق أمامها مواشيها وعلى أكتافها وفوق دوابها أحمال البرسيم ..
***
وتجاوزت مدينة " دمنهور " بسرعة رتيبة ولم استرح فيها .. وواصلت السير .. وفى عزمى أن أتعشى فى مدينة " طنطا " ..
وكانت البرودة رغم ما فيها من قسوة تنعشنى وتزيد من حيويتى ونشاطى وتنبه حواسى وتفتح عينى جدا على مسالك الطريق .. وصوت الموتور يأتى إلى أذنى كأنه عزف شجى لمجموعة متآلفة من الآلات الوترية ..
***
وتعشيت فى حدود " طنطا " وشربت القهوة .. ثم واصلت السير وأنا شاعر بالراحة .. وكان الظلام يتكاثف فى كل ساعة ومع ذلك كنت أحس أن العربة تسير وحدها على طريق لا حب ..
واعترضتنى قافلة من اللوريات الضخمة بعد مدينة طنطا تدفقت فجأة وشغلت الطريق .. كانت تستريح فى المدينة ثم انطلقت فتباطأت جدا فى سيرى وهى تمرق بجانبى تهز الأرض ومصابيحها تحول الليل إلى نهار ..
ثم انقطع سيل العربات وخيم الظلام الدامس من جديد ..
***
وفى " بركة السبع " تمهلت تماما وانحرفت بالعربة إلى اليمين لأغير موضع عجلة خلفية وأنفخ الإطارات فى محل على الطريق ..
وتركت السيارة للعامل .. وجلست فى مأمن من الريح .. وشاهدت فى داخل الكشك عاملا ينظف مسدسا أوتوماتيكيا صغيرا جميل الشكل .. فأخذت أرقبه حتى مسحه ووضع فيه مشط الرصاص ..
ولاحظ العامل نظراتى فسألنى وعلى وجهه ابتسامة :
ـ تشتريه .. يا بيه ..؟
ـ أعمل بيه .. إيه ..؟
ـ ينفع فى الليل ويمكن تقتل به يهودى .. إحنا فى حرب ..
وخشيت أن يكون مسروقا فسألته ..
ـ وجبته منين ..؟
ـ اشتريته من يومين .. من سائح ألمانى .. مر بعربته الفولكس .. طلب خمسة جنيه .. كان عاوز فلوس .. والمسدس لقطة .. تفضل .. شوف ..
وتناولته بيدى وأخذت أقلب البصر فيه واقرأ الحروف المدونة عليه لأعرف طرازه .. وجربته .. فأطلقت منه رصاصة .. وزاد إعجابى به بعد التجربة ونقدته سبعة جنيهات ، ووضعت المسدس فى جيبى وأنا شاعر بالارتياح ..

واستأنفت السير والليل يدخل فى ظلمات أشد وسحب سوداء كثيفة حجبت عنى نجوم السماء ..
وشعرت بالمطر وظللت أسير غير عابئ به إلى أن سمعت المحرك ( يطبل ) ثم توقفت العربة .. ونزلت منها ورفعت غطاء المحرك وحاولت معالجة العطل على ضوء بطارية فلم أوفق ..
وتطلعت فيما حولى باحثا عن ملجأ يقينى من المطر والبرد فى هذا الليل ..
ولاح عن بعد نور ضئيل ينبعث من بيت وراء الطريق .. فتقدمت نحوه وأنا أغالب المطر والوحل ..
ولم أكن حتى هذه اللحظة قد شعرت بالضيق فإن هذه الأشياء تحدث كثيرا لكل شخص يقود سيارة ولكن حدوثها فى الليل فى الأماكن الموحشة قد يربكه ..
ووجدت على الدرب بيتا منفردا أبيض من طابقين .. وبجانبه عرصة واسعة .. وخلفها مدرسة القرية ..
والقرية كلها فى الداخل على مدى نصف فرسخ من طريق السيارات ..
واقتربت من البيت وكان نوره الضئيل قد انطفأ فى هذه اللحظة .. والأشجار تحيط به .. أشجار كثيفة وعالية .. ووراءه مزارع البرسيم والخضر ..
وقرعت الباب وعلى غير بيوت الريف لم أسمع صوت الكلاب .. وأدار المصراع رجل سمين الوجه بادى الطول فى حوالى الأربعين من عمره عصب رأسه بكوفية غطت جبينه كله .. ورأيت فى عينيه الايناس .. وحدثته بالعطل الذى حدث لسيارتى فرحب بى وأدخلنى بعيدا عن المطر ..
وسألنى :
-      فى العربية حاجة تخاف عليها ..؟
-      أبدا .. مفهاش حاجة ..
-      وسكيتها ..؟
-      العربية مكشوفة ..
وضحك ..
ورأى أن نذهب إلى مكانها ونضعها فى مكان آمن بعيدا عن الطريق ..
وفعلنا هذا ورجعنا إلى بيته ..
       وجلست فى المضيفة وكانت إلى يمين الداخل أستمع إلى صوت المطر فى الخارج وعلى زفيف الريح .. وأشعل لى الرجل مصباحا صغيرا وضعه فى النافذة الوحيدة المغلقة التى تطل على الطريق .. وبدا أثاث الغرفة يدل على حالة صاحبه .. إنسان متوسط الحال ..
       وكانت الغرفة نظيفة وليس فيها أنفاس لضيوف طرقوها من قبل على مدى يومين على الأقل وطالعنى السكون من الدور الأرضى كله .. وكان قد تركنى فيه الرجل وصعد إلى فوق ثم عاد يقدم لى السجائر ويرحب ..
       وبعد قليل سمعت حركة أقدام تهبط السلم وخرج صاحب البيت على أثرها من المضيفة يتناول اليد البيضاء الممدودة إليه ..
       ولمحت سيدة شابة ناضرة الوجه تضع الصينية فى يد الرجل ثم تعود صاعدة السلم على عجل وهى تحاول فى هذه الحركة ألا تسفر قط ..
       وتناولت كوب الشاى وأنا مشدوه من الجمال الذى رأيت ظله لحظات .. جمال يجل عن الوصف ويسبى العقل فى قرية مجهولة لا أعرف حتى اسمها .. جمال أصابنى بما يشبه الخدر حتى أننى لم أتنبه لصوت الرجل وهو يعرض علىَّ العشاء بإلحاح .. لم أتنبه لصوته إلا بعد أن كرر العرض فشكرته بحرارة وأقسمت له بأننى تعشيت ..
       وشعرت بالراحة بعد الشاى والهدوء الذى يجلب النعاس ..
       وكنت انتظر انقشاع المطر وأحاول إصلاح السيارة بأى سبيل .. ولكن الرجل أفهمنى أن أية محاولة فى الليل لا تجدى والأحسن الانتظار إلى الصباح .. واقتنعت برأيه ..
       وأخذ يعد لى الفراش على الكنبة وكانت زوجته من الخارج تناوله البطانية والملاءة والوسادة .. ولا تنطق بحرف ..
       ورأيتها من بعيد واقفة فى ظل المصباح ترتدى ثوبا سابغا من القطيفة الزرقاء وعلى رأسها منديل أسمر ..
       وبعد أقل من دقيقة تركتنا وصعدت إلى الدور العلوى ..
       وحيانى الرجل .. وذهب لينام ..
       وخلعت سترتى وتمددت على الكنبة وأنا أحن إلى النوم ولكن لم يغمض لى جفن ..
       وشعرت بالمطر يكف .. وخفت حدة الريح .. وسمعت صوت العربات على الطريق وصفير القطارات ودويها على القضبان .. وخيم سكون عميق ..
       وأغفيت فترة زمانية لا أستطيع تحديدها .. واستيقظت على صوت من خارج الدار يصيح :
-      يا شيخ طلبة .. يا شيخ طلبة ..
فأدركت أنه اسم الرجل الذى أضافنى فى بيته ..
وسمعت بعدها صوت أقدامه على السلم وهو نازل وحركته وهو يفتح الباب ويقول :
-      مين ..؟
ولما دار المصراع وانكشف الرجل للطارق .. انطلقت رصاصة ..
ونزلت المرأة على أثرها وهى تصرخ وتردد ..
-      الأنذال ..
فتناولت المسدس وخرجت سريعا .. وهناك وجدت الشيخ طلبة صريعا وزوجته واقفة على رأسه تعول .. ولمحت القاتل يجرى فى الظلام تجاه المزارع .. فصوبت مسدسى وأطلقت عليه ثلاث طلقات .. وسقط القاتل على بعد أمتار ..
وكانت المرأة واقفة بجانبى فى هذه اللحظة ولم تفهم شيئا وقد شلها الرعب عن النطق إذ لم تكن تقدر فعلتى أبدا ولا تتوقع أنى مسلح ..
ثم دفعتنى بيدها عندما أحست بأن أهل القرية خرجوا على صوت الرصاص ..
-      اهرب .. واقف ليه ..؟ اهرب .. مفيش حد شافك .. ولا يعرفك هنا ..
واستدرت إليها ورأيت وجهها وعينيها للمرة الثانية ..
وقلت :
- أبدا .. أنا باقى معك .. ومش حسيبك فى الليل لوحدك أبدا .. وظلت صامتة .. لم تنبس .. وكان وجهها يرتعش كله وهى تغالب الدموع ..
وتناولت من الداخل البطانية التى كنت أتغطى بها .. ووضعتها فوق جثة زوجها وكانت الجثة الثانية على بعد أمتار منا .. تسفيها الريح ..
=========================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بتاريخ 29/1/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
=========================

















سونيا الجميلة

التقيت « بسونيا » لأول مرة فى بنك الصين ، وكانت فى الصف عندما خرجت من فمى على سبيل السهو بضع كلمات باللغة العربية جعلت الموظف فى حيرة ..
 ولكنها ابتسمت وأزالت حيرته بأن ترجمت له الكلمات فى الحال إلى اللغة الانجليزية .. فحولت إليها وجهى فى دهشة .. لأن أول شىء خطر على بالى فى تلك اللحظة أنها مصرية ووجود المصرية فى هذه المدينة نادر الحدوث ويبعث على الدهشة .. ووددت لو أوجه إليها أول سؤال لأعرف حقيقة المسألة ، ولكننى تباطأت وكانت هى أسرع منى فخرجت على عجل من الصالة بعد أن فرغت من عملها ..
ثم رأيتها مرة أخرى واقفة على الرصيف فى « كولون » تنتظر مثلى الباخرة التى سنعبر بها الخليج إلى « هونج كونج » وكانت بصحبة رفيقة صينية فى مثل سنها ومع أننا كنا فى الطابق الأول من الباخرة .. ولكنهما خرجتا قبلى مسرعتين على الكوبرى الخشبى .. ولما استدارت لمحتها تنظر إلى ناحيتى ولا أدرى أكانت تقصدنى أم تقصد شخصا آخر ..
والتقيت بها بعد ذلك بثلاثة أيام فى « حدائق النمر بهونج كونج » وكانت برفقة نفس الشابة الصينية .. وكانتا تتبختران بين الأشجار كأجمل شابتين بين المروج وأنا وحدى أتسكع .. فرفت على ثغرها نفس الابتسامة التى رأيتها فى البنك .. وسمعت صوتها وضحكتها ثم غابتا عن بصرى ..
وفى اللقاء الرابع وجدتها أمامى فى الترام ذى الطابقين بشارع هوليود فى مدينة هونج كونج .. وكأننى عثرت على شىء عزيز كان ضائعا منى منذ سنين طويلة ووجدته فجأة ولذلك تشبثت بها بقوة .. وحادثتها على التو باللغة العربية التى لا يفهمها أحد فى الترام ولا فى المدينة .. وعرفتنى بأنها درست بقسم اللغات الشرقية بجامعة موسكو .. وزاد ذلك من سرورى ولا أدرى إحساسها فى ذلك الوقت ، ولكننى شعرت عن يقين بعد أن نزلنا من الترام وأخذنا نتهادى فى شارع « دى فو » بأنها استراحت للقائى الذى لم يكن على ميعاد .. كما استراحت لصحبتى ..
وحدثتنى بأنها قادمة من نيودلهى وستمكث عشرة أيام فى « هونج كونج » ، وتسافر منها إلى « بكين » .. وأنها تنزل الآن عند الصديقة التى رأيتها معها من قبل ..
وقلت لها أنى أنزل فى فندق « شمروك » بشارع « نثان » وأتمنى أن يكون منزل صاحبتها قريبا من الفندق لنتلاقى فى الأيام القليلة التى سنقضيها فى « هونج كونج » ..
وعبرت لها عن بالغ سرورى لأنى وجدت من يحدثنى بالعربية بعد غيبة ثلاثة أشهر عن القاهرة .. ويضاعف من هذا السرور أن تكون المتحدثة شابة جميلة ورقيقة المشاعر مثلها .. واحمر خداها لهذا الإطراء ..
ولما كانت قد جذبتنى بروحها الجميلة وملامحها الشرقية وخجلها العذرى .. فقد حرصت على ألا أجعلها تفلت من يدى بعد أن جمعتنا الأقدار لأول مرة فى صالة البنك ..
وكنا قد ملنا إلى شارع « كوين رود » دون أن نشعر مستعرضين الحوانيت كسائحين متعطشين لكل ما تقع عليه العين فى مدينة الأعاجيب التى وطئتها أقدامنا لأول مرة ..
ووقفنا عند قاعة « كافيه دى بارى » .. فعرضت عليها أن ندخل ونستريح حتى يحين موعد لقائها مع صاحبتها الصينية التى سترافقها فى جولة ..
ووافقت وأزحنا الستر ودخلنا فى مكان جميل هادئ .. وسمعنا ونحن نتقدم نحو المائدة التى اجتزناها أنغاما صينية خافتة استراحت لها حواسنا ..
وجلسنا إلى مائدة واطئة وحولنا الستر الحريرية الحمراء عليها خيوط الذهب وشعرنا بالدفء والراحة بعد تناول قليل من الطعام وشرب الشاى ..
وأخذت أحادث « سونيا » باللغة العربية الخالصة التى كنت أستثقلها فى مصر ولكننى أحببتها الآن من أجلها .. وقالت لى إنها عائدة إلى بكين ومنها ستسافر إلى موسكو .. وإنها تعد دراسة عن الحالة الاجتماعية فى جمهورية مصر العربية والهند بعد الحرب العالمية الثانية .. فهما دولتان ناميتان أخذتا فى التصنيع .. وأبدت رغبتها فى زيارة القاهرة التى تحبها وتود أن تعرف الكثير عنها .. وسرها للغاية معرفة مصرى مثلى فى « هونج كونج » ..
وقرأت فى عينيها السؤال عن السبب فى وجودى فى هونج كونج .. فقلت لها أنى كنت فى زيارة أخى الأكبر الذى يعمل فى « بانكوك » ولقربى من « هونج كونج » وكنت أسمع عنها الكثير وجدتها فرصة سانحة لزيارتها.. ومهد لى أخى المال اللازم لذلك ..
وأضفت وأنا أحدق فى وجهها الجميل ، وفى بريق عينيها الخضراوين وفى الحمرة التى علت خديها ..
ـ وما دمت قد وجدت من يحدثنى بالعربية سأظل فى « هونج كونج » إلى أن تسافرى ..
ـ ألا يوجد من يتكلم العربية هنا ؟ ..
ـ أبدا .. ان هذا نادر .. يوجد من يتحدث بها فى القنصليات العربية الموجودة فى المدينة .. ولكننى ما جئت هنا لأذهب إلى هؤلاء ..
وقالت بعذوبة :
ـ يسرنى الحديث بلغتك .. لأنى تركتها مذ غادرت موسكو ..
ثم أردفت بحماسة :
ـ وكم أنا فى شوق لزيارة القاهرة ..
فقلت لها ..
ـ يسرنى أن أستضيفك إذا ذهبت إلى هناك .. وستفرح بك والدتى وأختى .. وهى فى مثل سنك ..
ـ شكرا .. شكرا ..
وكانت تكرر هذه الكلمة كثيرا .. بالتفخيم حتى كان قلبى يضحك .. ولم أكن وأنا فى صحبتها أتصور أننى بعدت عن القاهرة شبرا واحدا .. فقد كانت تنقلنى بملامحها وطباعها إلى هناك ..
ولقد جذبتنى إليها بقوة المغناطيس .. والشابات اللواتى فى مثل سنها من الأوربيات والأمريكيات والآسويات والأفريقيات اللواتى كنت أراهن يتجولن فى شوارع « هونج كونج » فى مطلع عام 1971 كن يلبسن المينى جيب.. فى صميم الشتاء ..
أما هى فكانت تلبس جونلة تغطى الركبة وبلوزة صوفية تصل إلى العنق .. ولم يكن فى وجهها غير زينة خفيفة بل وأقطع بأنها لا تضع أحمر شفاه على الإطلاق ..
ولكم تمنيت وأنا أحدق فى ثغرها لو لمسته بشفتى وذقت حلاوته على الطبيعة ..
وكان ميعاد صاحبتها قد اقترب .. فنهضنا .. ورافقتها إلى الميناء .. ولما تقدمت إلى الشباك لأقطع لها التذكرة وثمنها لا يزيد على قرشين .. عارضتنى ورفضت بشدة .. ولكننى أخيرا تغلبت عليها ..
وقلت مازحا :
ـ أنت مصرية يا سونيا ..
ـ وهل المصريات يفعلن ذلك ..؟
ـ أجل .. لهن نفس الطباع ..
وضحكت ..
ولما رست الباخرة هبطت إليها بسرعة .. وتلفتت نحوى .. قبل أن تجلس  على الدكة الخشبية .. وكنت لا أزال واقفا فى مكانى فحيتنى بيدها وقد وجدت فى هذه الحركة تحية ود جميلة ..
***
ومع أنها أعطتنى عنوان المنزل الذى تقيم فيه وكان فى شارع « شنغهاى » بكولون ..
ولكنى لم أجد فى نفسى الرغبة فى قرع بابها .. لتحفظها الشديد .
وتركت يوما كاملا بنهاره وليله يمضى دون لقاء .. وحدثت نفسى بأنها إذا رغبت فى لقائى .. فمن السهل عليها الاتصال بى تليفونيا  ما دامت تعرف الفندق ..
ومر اليوم الثالث كله دون لقاء أيضا .. وإن كنت قد ذهبت إلى قاعة « الكافيه دى بارى » فى « هونج كونج » .. لعلى أجدها هناك ..
وفى صباح اليوم الذى يليه دق جرس التليفون فى غرفتى قبل أن أتناول الإفطار وحدثتنى موظفة الاستقبال .. أن سيدة تنتظرنى فى بهو الفندق ..
فقلت للموظفة :
ـ أعطيها رقم الغرفة لتصعد .. لأننى أتناول الإفطار ..
فقالت :
ـ لقد أعطيتها الرقم يا سيد / حسن .. ويبدو لى أنها تفضل الانتظار هنا ..
فقلت للموظفة :
ـ مس لى .. أعطيها السماعة من فضلك ..
وجاءت سونيا على الخط ..
فقلت لها :
ـ آنسة سونيا .. أرجو أن تصعدى .. فأنا لم أفطر بعد ..
ـ لا داعى لإزعاجك .. وسأنتظرك فى البهو حتى تفطر ..
ـ ولماذا تجلسين وحدك .. تعالى ..
ـ سأتحدث مع الموظفة حتى تحضر ..
ونزلت إليها قبل الإفطار وأنا مستاء قليلا من هذا التصرف .. لأنى شعرت أنها لا تثق فىّ .. ولكننى التمست لها العذر .. لأننا لم نتعارف بعد المعرفة التى توجد عندها هذه الثقة ..
***
ووجدتها ترتدى ثوبا بنفسجيا من الصوف .. وتغطى شعرها بإشارب وفى قدميها حذاء أسود .. وفوقه جورب وردى من النايلون جعل ساقيها أكثر جمالا وفتنة ..
وجلست بجوارها على كنبة مغطاة بحشيات من الحرير .. وأنا مأخوذ بجمالها وببشرتها الناضرة ..
وطلبت من الساقية الشاى ..
فقالت بعذوبة :
ـ لا داعى له .. سنشربه فى « هونج كونج » ..
ـ لم أفطر .. وتركت الطعام على المائدة ..
ـ سنفطر فى « هونج كونج » .. أريد أن أتسوق بعض أشياء لأخى .. ورأيت أن آخذ رأيك كرجل قبل شرائها ..
وخرجنا من الفندق بعد الساعة التاسعة صباحا . وكان الجو جميلا .. بعد مطر لم يدم طويلا .. والحركة فى الشوارع على أشدها .. وكل شىء يتحرك بسرعة ونشاط .. السيارات الصغيرة والكبيرة .. والترام ذو الطابقين .. والرجال والنساء .. كل يتحرك فى سرعة دافقة كأنه فى سباق ..
ومر بجوارنا تاكسى فاستوقفته ..
وقالت :
ـ المسافة قصيرة .. فلماذا لا نمشيها .. والجو فيه لسعة برد خفيفة أحب أن أتحرك فيها ..
ـ إننى جائع .. ولا أستطيع المشى وأنا جوعان !..
وأركبتها قبلى .. ولما جلست بجوارها أدركت أن التاكسى صغير جدا .. وأكاد ألتصق بها .. وظهر عليها الخفر ولزمنا الصمت ..
***
وفى الباخرة التى أقلتنا إلى « هونج كونج » جلسنا دون قصد على دكة خشبية بجوار فتاة صينية .. عرفتها بعد جلوسى وعرفتنى .. فتجاذبنا الحديث لفترة قصيرة بالإنجليزية .. فقد كانت مضيفة فى الطائرة التى نقلتنى إلى
« هونج كونج » ..
ولاحظت أن وجه سونيا أحمر وأنا أحادث الفتاة ..
ولما خرجنا من الباخرة .. وأصبحنا فى شارع « دى فو » قاصدين المتجر قلت لأزيل من رأسها سوء الفهم ..
ـ الفتاة مضيفة ..
ـ مضيفة ..؟!
ـ أجل .. وركبت معها الطائرة من « بنكوك » إلى مطار « كاى تاك » ..
ـ وتتذكرك مع عشرات الأشخاص الذين كانوا فى الطائرة .. ؟ انها ذكية جدا .. !
ـ لقد سافرت معها فى رحلة أخرى .. ولهذا السبب أعتقد أن صورتى ظلت فى ذهنها .. فلقد كنت المصرى الوحيد ..
ولم تعقب سونيا .. ومشينا صامتين حتى دخلنا المتجر ..
***
وصعدنا على السلالم الكهربائية إلى الطابق الرابع .. فى متجر « لين كراوفورد » ووقفنا أمام فتاة صينية مليحة الوجه سوداء الشعر ترتدى معطفا أزرق ..
واستقبلتنا بالترحيب ..
وخطر لها للوهلة الأولى أن سونيا زوجتى .. فأخذت تحادثها على هذا النحو .. وقدمت لها أجمل ما عندها من القمصان .. الأرو .. والنايلون .. والبلوزات .. والكرافتات الحريرية ..
ولما انتقلنا إلى قسم الجوارب .. رافقتنا .. لتدلنا على الطريق وتقدمنا إلى الفتاة المختصة وهى تنحنى فى رقة أذهلتنى ..
ولقد اشتهيت هذه الفتاة بكل مفاتن جسمها اللدن .. وكل العذوبة والرقة والاشتهاء الصامت الذى وجدته فى عينيها ..
واشتريت أشياء كثيرة بأقل الأسعار إكراما لها .. كما اشترت سونيا ..
ولما أصبحت الربطة كبيرة .. فضلت البائعة أن يرسلها المحل على عنواننا حتى لا نتعب فى حملها ..
فسألت سونيا بالعربية :
ـ هل نرسلها على عنوان صاحبتك .. ؟
ـ اجعلها على عنوانك فى الفندق .. لأنه أقرب ..
وفعلا كتبت عنوانى ..
وبارحنا المتجر والساعة تشير إلى الحادية عشرة .. وكان أمامنا وقت طويل للتنزه قبل ساعة الغداء ..
فمشينا فى شارع « كورواى بيى » نتسكع كما اتفق .. واستلفت نظرى صورة كبيرة « للولو بريجيدا » على باب سينما « كابيتال » أغرتنا على أن ندخل السينما ونشاهد الفيلم وكنا لم نر فيلما إيطاليا من مدة طويلة ..
وكان البلكون فى الدور الثانى فصعدنا سلالم خشبية مغطاة بالسجاد .. وخيل إلينا والعامل يدلنا على مكان جلوسنا فى الظلام أن الصالة خالية من الرواد ..
وجلسنا نحدق فى الشاشة .. وكانت بعيدة جدا .. والسينما مع أنها فخمة وأنيقة .. لكننا شعرنا فيها بالوحشة .. لشدة الظلام ورهبته ولأن المقاعد التى حولنا وأمامنا بدت خالية تماما وغمرنا الإحساس المشترك بعد دقيقة واحدة من دخولنا إلى السينما أنها تشتغل لنا وحدنا ..
وكانت « لولو بريجيدا » .. قد نهضت من فراشها فى هذه اللحظة تتثاءب وهى فى قميص من الدانتلا الأسود يكشف كل مفاتن جسمها العاجى .. ويزيد من حلاوته .. ومرت علينا فى هذه الجلسة الشاحبة عشرون دقيقة وأكثر .. ونحن لم نتبادل كلمة واحدة .. ولم أجرؤ فى خلالها على لمس يدها .. بعد أن وجدتها جالسة كالمتخشبة على المقعد ..
وملت عليها أحدق فى عينيها ، وأقول بصوت خافت فيه الكثير من عواطف القلب .. محاولا بذلك أن أحرك رمادها البارد ..
ـ أتشعرين بالبرد .. يا سونيا ..؟
ـ أبدا .. التكييف يعمل بحرارة ..
ـ هل أعجبك الفيلم ..؟
ـ رائع .. ولكن يبدو أنه بدأ من مدة ..
ـ سنبقى حتى نراه من أوله .. فالعرض مستمر ..
ـ هذا أحسن ..
وأمسكت بيدها .. بعد هذا الحديث .. ولمستها برقة ..
فأبقتها فى يدى لحظات ثم سحبتها ..
***
وشعرت من هذه الحركة ببرودة شديدة .. وتجمد فى ألياف لحمى .. ودمى .. حتى وإن كنت أتوقعها منها .. ثم تمالكت نفسى .. ولم أر ما يدعو لأن أعكر صفو الجلسة .. والرواية جميلة والممثلون يهزون المشاعر .. وخرجنا من السينما والساعة قد تجاوزت الثالثة ظهرا ..
***
وكنت فى حالة اكتئاب لم أستطع أن أخفيها ولذلك سرنا فى الشوارع كزوجين مضى على زواجهما عشرات السنين فأصبحا خامدين صامتين .. لا تحركهما حتى الأعاصير ..
فقد كنت أتوق بحرارة الشباب وطبعه إلى لمس يديها وشفتيها .. ولكنها قابلت كل ذلك بحماقة .. جعلتنى أتبلد ..
ثم بعد ساعة تأججت عواطفى من جديد ونسيت حماقتها فى السينما .. وغفرت لها هذا التحفظ ..
***
وأصبحت فى كل ساعة تمر أزداد حبا لها وتعلقا بها .. فقد جذبتنى بكيانها كله وروحها العذبة .. جذبتنى بشىء خفى لا أستطيع تحديده .. فكنت أحس بضربات قلبى كلما أهلت علىّ بوجهها أو سمعت صوتها .. أو حتى سمعت من بعيد موقع أقدامها على درجات الفندق ..
ولم أستطع تعليل هذا الحب الجنونى .. ولقد شغلتنى بشمول كامل فى مدى أربعة أيام فقط عن النساء جميعا .. فأصبحت متعففا إلى درجة كبيرة ..
وعجبت لنفسى .. وقد كان غرضى الأول من زيارة « هونج كونج » أن أغوص فى قلب المدينة وأختلط بكل أجناس النساء .. وأبدأ بالإنجليزيات وكن يتعالين علينا فى مصر بسبب الاستعمار الطويل .. أما هنا فنظرتهن تختلف تماما ..
 وفكرت أن ألتقى بواحدة منهن على التو لأحقق رغبة دفينة .. ولكن سونيا .. غيرت مجرى سيرى وحياتى .. واستولت على روحى وجسمى .. تملكتنى تماما .. ولم أستطع إلى هذه اللحظة الفكاك منها ..
كانت فيها قوة خفية للأسر .. الأشياء التى كانت تنفرنى منها كانت هى التى تقربنى إليها .. خفرها الشديد .. وهدوؤها ..واحتشامها .. جعلتها فتاة غير فتيات العصر ..
***
وفاتنى ميعاد الغداء فى الفندق بسبب السينما .. فتغدينا معا فى « هونج كونج » ثم ركبنا الباخرة إلى « كولون » وكانت الساعة تقترب من الرابعة .. والجو فيه غيوم خفيفة ولسعة برد .. ولكنه محتمل .. ورأينا أن نتمشى إلى بيتها ..
وعلى الباب ودعتها .. وأنا أقول :
ـ ستأتين فى المساء .. لأخذ حاجتك .. لابد أنها وصلت الآن ..
ـ سأتلفن لك ... قبل السابعة .. وأحب أن نتجول معا فى « كولون » ..
وحييتها وانصرفت وأنا شاعر بالفرح ..
***
ووصلت إلى الفندق فى الفترة التى تنقطع فيها المياه عن المدينة .. فاستلقيت على الفراش أقلب صحيفة محلية تصدر باللغة الإنجليزية .. حتى تعود المياه إلى مجاريها .. وكانت صورة « سونيا » تحتل كل صفحة .. فألقيت الصحيفة من يدى .. وأخذت أرتب الغرفة .. وأمسح على الكرسى الطويل الذى ستجلس عليه .. وأرتب المنضدة الصغيرة .. وأرخى ستر النافذة وأخفضه ..
وكانت الغرفة صغيرة ولكنها جميلة وأنيقة وتطل على الشارع .. فوقفت بجوار النافذة أرقب حركة المرور فى المدينة الساحرة ..
كان المارة حتى فى « كولون » وهى ليست مزدحمة بالسكان « كهونج كونج » يتحركون فى سرعة شديدة .. كأنما هناك من يلهب حواسهم إلى النشاط والحركة السريعة ..
وكانت المدينة التجارية الصغيرة يتدفق فيها فى هذه الساعة أجناس من كل ألوان البشر .. وسيارات التاكسى الصغيرة تمرق كالسهام .. وعربات الترام من طابقين أنيقة ونظيفة .. وتتوقف تماما للأطفال الخارجين من
المدارس .. فى غير المحطات وغير أماكن المرور ..
والصينيات الجميلات فى الجونلة المشقوقة عند الفخذين يتحركن بجانب الأوربيات والأمريكيات اللواتى يلبسن المينى جيب .. والبنطلونات .. وهذا الخليط من النساء وفيهن السمراء والشقراء .. والطويلة والقصيرة .. وذات الدل .. هذا الخليط يشوقنى ..ويلهب الحواس .. ولكنى تركته ..
وأحسست بعودة المياه .. فأسرعت إلى الحمام .. لأنتهى منه بسرعة خشية أن يدق التليفون .. وأنا بداخله ..
ولمحت وأنا خارج من الحمام فى الطرقة الخلفية خادم الفندق يحمل حقيبة ويتقدم سيدة شقراء طويلة القوام ترتدى فستانا رماديا من قطعة واحدة .. وتمهلت فى سيرى حتى عرفت رقم الغرفة التى نزلت فيها ..
ولما أدار الخادم أمامها مفتاح الباب .. ووقفت تنتظره لمحت آلة تصوير معلقة فى كتفها .. وخمنت بأنها سائحة أوربية وحدها ..
***
وفى الساعة السابعة دقت « سونيا » جرس التليفون .. فسألتها :
ـ من أين تتحدثين يا سونيا ..؟
ـ من تحت ..
ـ اصعدى .. أنا فى انتظارك ..
ـ سأصعد ..
وأعطيتها رقم الغرفة ..
وجاءت تتهادى كالعروس .. ولم أشعر بفرحة فى حياتى كما شعرت فى هذه الساعة .. ولما جلست على الكرسى الطويل المريح الذى أعددته لها .. خرست وأنا أنظر إلى جمالها كله .. محصورا فى أربعة جدران .. فى غرفة صغيرة .. انعقد لسانى ثم حلت عقدته .. وأخذت أهضب فى الحديث وأسح .. وهى صامتة مبتسمة .. والتى كانت من قبل هى المتحدثة وحدها صمتت الآن لتسمعنى ..
ولما أخذت الربطة .. لأخرج أشياءها .. قالت وقد تكسر خداها وأصبحا بلون العناب ..
ـ ابقها .. الآن .. فإنى أحب أن أشاهد « كولون » فى الليل وأنت معى ..
وتجولنا أكثر من ساعة فى المدينة .. ثم دخلنا ملهى « امبريال » ولاحظت أنها فى شوق إلى مشاهدة هذه الأشياء لأنها غير موجودة فى بلادها .. وتود فى فترة وجودها فى « هونج كونج » أن تشبع منها .. وتحس بالاكتفاء ..
وكانت الصالة خافتة الضوء .. وشاحبة وممتلئة بالرواد .. من السائحين وهم الغالبية واخترنا ركنا .. أكثر ظلاما من كل جوانب الصالة .. ولا أدرى من منا الذى كان يريد أن يتخفى عن الأنظار ..
وطلبنا نبيذا أحمر .. ولم نشرب كثيرا مراعاة لحالتها ..
وبدأت على خشبة المسرح عروض مختلفة من الغناء والرقص الصينى .. والأوربى ..
ثم بدأ عرض التجرد من الملابس من فتيات جميلات القوام ومنهن الصينيات أيضا ..
ولاحظت الخجل الشديد على وجه « سونيا » ولكنها لم تحول نظرها عن هذه المشاهد .. استمتعت بها كلها ..
وتلاقى فى الشوارع الصينى والهندى .. واليمنى .. والباكستانى .. والأرمنى .. واليونانى .. والإنجليزى والأمريكى ..
والصينى الذى يعيش ويموت فى الماء .. والذى يسكن الأكواخ الحقيرة القذرة فى « أبردين » ..
ثم المستعمر الذى يسكن القصور الفخمة على الخليج .. ويملك اليخوت للنزهة والمتعة ..
ومع كل هذا الخليط البشرى من مجتمعات كل البشر فى مدينة الأعاجيب دون تناسق أو رباط .. فإنك تشعر بالراحة عندما تضع قدمك فى المدينة وتتنفس هواءها .. ولا تدرى السبب على التحقيق ففيها جاذبية غامضة وحرية يستريح لها كل سائح وهو يتداول النقد فى أى مكان .. وأول ما يطالعك فى الميناء هو ابتسامة مشرقة وترحيب رقيق من فتيات إنجليزيات يلبسن المعاطف البيضاء .. وقفن وراء المنصة كأنهن ملكات الجمال يفحصن فى سرعة ودلال بطاقتك الصحية ..
وتوغلنا فى قلب مدينة « هونج كونج » وأصبحنا فى الحى الصينى الخالص بلافتاته الكبيرة المتشابكة ودكاكينه الصغيرة .. وحواريه الضيقة .. نشم رائحة الأطعمة الصينية من بعيد قبل أن نشاهد دخان المطاعم .. ونرى الأطعمة معروضة فى صحاف كبيرة وراء الزجاج فيسيل لها اللعاب ..
والصينيات فى المرايل البيضاء والزرقاء بوجوههن الصفراء والمستديرة وعيونهن المشروطة ورؤوسهن المعصوبة بالمناديل .. فى استقبالنا للخدمة ..
***
وقضينا نهارا جميلا أنا وسونيا فى الهضبة وأشرفنا من أعلى مكان فى المدينة على الجزيرة كلها بروابيها ومروجها الخضراء ..وخلجانها .. ورأينا أجمل المناظر الطبيعية على الإطلاق ..
وكانت « سونيا » متفتحة وشاعرة بالجمال كله .. وتتشرب روحها وجسمها من الأنفاس المتعطرة المحيطة بنا ..
وبرزت فى هذه اللحظة .. بجمالها كله .. وهى معتمدة على السياج الحديدى .. ومتجهة بعينيها نحو الشرق .. ولقد أسرنى قوامها فوددت لو أقبلها وأعتصر عودها ولكننى وجدت دافعا قويا يردنى عن ذلك ..
ثم ركبنا عربة « الركشة » وجلسنا متجاورين فى هذا الحيز الضيق .. وأخذ الشاب الذى يجرها يبتسم لنا فى مرح وتبرق أسنانه الذهبية .. وهو يسير بنا الهوينا ثم يسرع ثم يعود فيتمهل لنأخذ حظنا مما حولنا من جمال ونستمتع بالرحلة إلى مداها ..
***
وبعد أن نزلنا من الهضبة .. أخذنا نفكر فى نزهة أخرى ثم رأينا أن نتغدى فى السفينة العائمة لأنها كانت تسمع عنها وفى لهفة إلى رؤيتها ..
وحملتنا فتاة صينية ناضرة فى زورقها الصغير إلى السفينة ..
وجلسنا إلى مائدة نأكل السمك الطازج .. ونستمتع بكل ما حولنا من جمال البحر وكانت الشمس تذهب وتجىء ..
وشاهدنا زوارق أولئك المساكين الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..
وسألتنى سونيا وهى تتجه بوجهها إلى ناحيتهم :
ـ أتعجبهم هذه الحياة ..؟
ـ لا أظن .. من يرضى بهذه الحياة الدون ..
ـ ولماذا لا يغيرونها ..؟
ـ ما أحسبهم يستطيعون ذلك .. فالفقر يعصرهم بقوة ، والحياة الرتيبة تشدهم إلى هذه الزوارق .. وهى بمثابة قبور لهم .. من اللحظة التى يولدون فيها .. يجدون هذه الرموس أمامهم وكأنها مصيرهم الأبدى ..
ـ إذا أرادوا التغيير .. يمكن أن يتغيروا ..
ـ لقد استطابوا هذه الحياة الضحلة .. ورضوا بهذا الهوان .. وما أحسب أن لهم إرادة على الإطلاق ..
وكانت الشمس تجنح للغروب عندما غادرنا السفينة .. وقد نقلتنا نفس الملاحة الصينية وقد أجزلت لها العطاء إكراما .. لطفلين لها كانا ممدين فى بطن الزورق شاحبين كالموتى ..
ووصلنا الفندق فى الليل .. وكانت الرحلة طويلة من « أبردين » إلى « كولون » فأحسسنا بالتعب معا ..
وجلست سونيا فى حجرتى تستريح وأنا قبالها .. أملأ عينى من حسنها كله .. وخلعت معطفها وحذاءها .. واسترخت .. فقلت لها برقة ..
ـ هل تنامين قليلا .. يا سونيا ..؟
ـ شكرا .. سأغلق عينى وأنا جالسة .. وأكتفى بهذا ..
وجاء الشاى فرشفته بقليل من السكر .. وانتعشت بعد لحظات قليلة .. ثم دخلت دورة المياه .. ولما عادت وجدتنى أغسل وجههى فى الحوض الذى فى الغرفة ..
وقلت لها وأنا أجفف شعرى :
ـ بللى وجههك بالماء الدافئ ..
ـ سأفعل ..
وغسلت وجهها .. وجففته جيدا وكأنها تدلكه ..
ثم وقفت أمام المرآة تمشط شعرها الأبنوسى الطويل الشديد البريق أجمل شعر رأيته على رأس حسناء ..
ولما استدارت عن المرآة وجدتنى أقف أمامها .. كالمأخوذ بكل هذه الفتنة وضممتها أخيرا إلى صدرى ..
وطوقتها وقبلتها فى شفتيها وعينيها وجيدها .. ثم نزلت إلى صدرها .. ودفنت فيه رأسى ..
ولا أدرى كم مضى من الوقت وهى واقفة ساكنة .. ولقد أحسست سكونها .. كأنها تروضنى .. ثم ذاب جليدها .. فطوقتنى .. ورفعت رأسى عن صدرها .. وقبلتنى قبلة سريعة ولكننى أحسست بحرارتها وحلاوتها .. وخلصت نفسها من عناقى .. وبحركة أغضبتنى ..
وجلست تسوى هندامها .. وشعرها .. بيديها ..
ووقفت أحدق فيها كالذى انتزع منه فجأة شىء يحرص عليه وعاش السنين كلها له ..
وبعد دقيقة من الذهول .. أمسكت بيدها لأنهضها .. فقالت بصوت أخرس :
ـ أين الربطة ..؟
ـ فأحسست بالبرودة تسرى فى دمى كله .. وتناولت أشياءها من الدولاب ووضعتها أمامها على النضد ..
ولبست معطفها وحملت أشياءها .. وأحسست بكل الخيوط وقد انقطعت فجأة بحد السكين وأوقفت لها « تاكسى » على باب الفندق وأركبتها فيه .. دون أن نتبادل كلمة ..
***
وبعد ذهابها .. شعرت بكآبة شديدة ووجدت نفسى أمضى فى الشوارع على غير هدى ثم أعبر الخليج إلى « هونج كونج » .. وأدخل الملاهى المثيرة .. وكنت أعرض نفسى فى سبيل المغامرة واكتشاف الأشياء المخبوءة إلى النشل والضرب حتى الموت ..
وفى « سنترال رود » وكانت الساعة تقترب من منتصف الليل والطريق ساكنا رأيت من بعيد شحاذا يطارد سيدة .. ويضايقها بإلحاحه ولما سمعت السيدة خطواتى وراءها توقفت .. ولما اقتربت منها وجدتها جارتى فى الفندق..
فقلت لها بالإنجليزية :
ـ ما الذى جرى ..؟
ـ إنه يضايقنى .. وقد أعطيته نصف دولار .. ولكنه ظل يلاحقنى وأخاف على آلة التصوير ..
     ـ لا تخافى .. إنه لا يسبب لك أى أذى ..
واستدار الشحاذ وبعد عنا وهو يبتسم فى خبث وأسنانه الذهبية تلمع فى الظلام ..
ولما اطمأنت لوجودى بجانبها سألتها :
ـ ولماذا تسيرين وحدك هنا .. فى هذا الليل ..؟
ـ كنت أصور سوق الخضار .. وهم يغسلونه فى الليل .. منظر ممتع ..
ـ لو كان معى آلة تصوير لفعلت مثلك ..
ـ حقا ..؟
ـ حقا ..
وضحكت ..
ـ إذن سأعطيك صورة ..
ـ شكرا .. ستكون أجمل تذكار ..
ورافقت « كارولين » إلى الفندق ..
وفى الصباح التالى تلاقينا فى البهو .. كأننا كنا على ميعاد .. وخرجنا إلى المدينة وقضينا النهار بطوله وجزءا من الليل معا .. ذهبنا إلى كل مكان ترغب أن تراه .. وكل ملهى ..
وفى اليوم التالى ذهبنا إلى « لوو » وعدنا بعد منتصف الليل إلى الفندق .. ونامت فى فراشى نصف عارية مشبوبة بكل أنوثتها ..
إنها ألمانية .. وتزوجت ثلاث مرات وفشلت فى المرات الثلاث .. وتعمل صحفية .. ومراسلة لمجلة ألمانية مشهورة .. وقادمة من نيودلهى .. ومسافرة فى الغد .. إلى طوكيو ..
وتجاوزت الخامسة والثلاثين .. ولكن فيها حرارة بنت العشرين .. وأحببتها .. وأخذت ألمس شعرها .. وأضغط على شفتيها .. وأمزج عرقى بعرقها .. ودمى بدمها ..
وسألتنى :
ـ أمتزوج ..؟
ـ أجل ..
ـ وأين هى الآن ..؟
ـ فى الإسكندرية ..
ـ وجميلة ..؟
ـ جدا ..
ـ ولماذا تخونها ..؟
ـ لأنى أحبها ..
فضحكت ..
ـ أتكرهها ..؟
ـ إننى كلما اقتربت منها تتثاءب ..
ـ وأنا ..؟
ـ أنت مشبوبة العاطفة ..
ـ وأحببتنى ..
ـ بالطبع ..
ـ وتشعر بالسعادة .؟
ـ إلى أقصى غاية ..
ـ وستكتب لى .؟
ـ أجل .. من كل مكان أنزل فيه ..
واحتضنتها ..
***
وفى بكورة الصباح الضبابى الخفيف .. كانت نائمة بين ذراعى وشعرها الأشقر المتهدل يغطى الجبين .. فأمسكت بشعرات صغيرة ولمست بها شفتها السفلى مدغدغا .. فى نعومة ..
وفتحت عينيها .. على قبلاتى المحمومة .. وشدتنى إليها فى نشوة .. لم تكن كأية امرأة عرفتها .. كانت رائعة .. كأنما اجتمعت فيها كل خصائص الأنثى منذ حواء ..
وتذكرت وأنا أضغط على شفتيها ما قاله « بيرون » ليت النساء جميعا اجتمعن فى ثغرها فقبلته واسترحت ..
وقبلته .. وقبلته .. ولكننى لم أسترح ..
وشعرت بأصابعها تتحس فى نعومة كتفى وعنقى وصدرى .. كل شىء حولى كان جميلا وبلون العسل المصفى ..
وقبل الشروق بدأ المطر يتساقط وأخذت ريح خفيفة تهب وجعلت الشجر يتمايل ..
وكانت « كارولين » مستلقية فى قميص حريرى مغمضة عينيها .. كأنها تحلم .. ثم فتحت عينيها ونهضت فى تثاقل .. وقبلتنى وهزتنى فى مرح ..
ـ حسن .. إنى ذاهبة ..
ولبست ثيابها بسرعة دون زينة .. لتكمل زينتها فى غرفتها
وعلى الباب احتضنتها وقبلتها بقوة دون أن أعبأ بشىء ..
ولما رفعت رأسى عنها وجدت « سونيا » قادمة فى الطرقة متجهة إلى غرفتى ..
ولما شاهدتنا صدمها المنظر .. وتراجعت مضطربة .. وارتدت مسرعة إلى السلم ..
وسمعت وقع خطواتها .. وأنا أعصر قلبى ..
================================  
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد مايو 1971 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل "  سنة 1971
======================================

الجواد والفارس

     اشتهرت قرية " الريحانة " بخيولها العربية الأصيلة وكان الشيخ عبد الرحمن يملك أجمل الخيول على الاطلاق وأعرقها أصالة .. كان يملك الجواد " مبروك " أسرع جواد وقعت عليه العين وأبرع من رقص فى سامر ..
     كان القرويون يذهبون إلى مولد " الفرغل " ومولد " سيدى جلال " ليشاهدوا " مبروك " فى الساحة متبخترا مزهوا وعلى ظهره الأبنوسى الناعم كالديباج سرجه المطعم بالفضة وخيوط الذهب ..
ومن بداية العصر تبدأ الخيول المسرجة فى الرقص والناس من حولها حلقات والأبصار فى الدائرة الرحبة تحدق وتعجب لما يمكن أن يفعله الحيوان ..
     وعندما ينزل " مبروك " تستقبله الجماهير بالفرحة الغامرة والتهليل والتصفيق فهم يعرفونه بنظرته المتوهجة وغرته المشرقة على الجبين ثم بالحركة المفردة التى لا يقوم بها جواد آخر فى كل الموالد عندما يحيى الشعب المتحمس يرفع رجله اليمنى ويمدها أكثر من دقيقة وهو ساكن الجوارح كالتمثال ..
     ومن خلال ذلك الحشد الذى يموج ويجزر فى المولد يبدو فارسه المربوع الأسمر " عبد الرحمن " فى زعبوطه الكحلى وعمامته المزهرة يمسك اللجام .. وما يمسكه .. ويرد على تحية الجماهير أيضا بابتسامة خفيفة وأنف شامخ ..
     وينسى الناس من حوله أى مشهد آخر فى الساحة .. ينسون الحاوى ورقص الغوازى وحتى سرك " عمار " ..
     وفى غمرة الاعجاب والوله .. يأتى الفارس الذى لا يشق له غبار بحركة أخيرة .. فيغمز الجواد غمزة خفيفة فيرفع هذا رجليه الأماميتين فى وثبة رائعة ثم ينطلق متبخترا والعرق ينضح من جلده الأسمر البراق .. وفى لجامه الرغوة .. وقد تفتح منخراه جدا .. ليملأ صدره القوى ويزفر ..
     كأنه يعبر عن أسفه على مفارقة الجموع التى تحبه ويحبها ..
***  
     وظل الجواد " مبروك " فى قلب رواد المولد محبوبها الأوحد ..
     ومرت الأيام وزحفت المدنية على القرية الوادعة المجاورة لشريط السكة الحديد ية .. فأقيمت بجوار بستانها الغربى محطة صغيرة .. ودخل القطار وصفر .. وأصبح أهل القرية .. يصعدون إليه ويهبطون منه بأحمالهم وأثقالهم ..
     ورأى " مبروك " القطار .. وهو يقضم البرسيم فى الحقل .. فرفع إليه وجهه ونشر أذنيه .. فى تطلع المستغرب .. ثم اعتاد عليه وألفه وأصبح كلما وقف القطار فى المحطة يرد عليه بالصهيل ..
*** 
     وفى المدى البعيد تناقصت الخيول فى القرية .. ثم انقرضت .. وحتى الجمال والحمير .. فعل بها الزمان وأصبح اللورى يمر على الجسر وينزل إلى الدرب .. يحمل أكياس القطن وزكائب الغلال ..
     ونسى الناس شهرة القرية فى نتاج الخيل .. ولكن " مبروك " ظل فى القرية .. وان كف عن الذهاب إلى الموالد ..
     وظل الشيخ " عبد الرحمن " يركبه فى غدواته القريبة والبعيدة ولا يستعمل القطار ..
     وكان ( مبروك ) قد كبر وسمن قليلا .. ولكنه ظل محتفظا بجماله .. وجلده الأبنوسى الناعم وعينيه المتألقتين .. كان فيهما ذكاء لا تراه عين إنسان ..
     وقد أطلقه الشيخ " عبد الرحمن " يمرح فى مرعاه .. لم يكن يقيده أبدا ولا يضع عليه السرج إلا وهو ذاهب إلى البندر أو إلى السوق ..
     وكان أهل القرية جميعا يعرفون ( مبروك ) وطباعه .. فما استوى قط على ظهره سوى صاحبه ..
     ولكن عبد المقصود وهو فلاح كسول عنيد .. لم يصدق هذه الإشاعة .. وأراد أن يجرب حظه مع الجواد وهو ذاهب إلى الحقل يبذر البرسيم .. وجد الجواد أمامه فى ندوة الفجر يرعى وحده وليس قريبا منه أنس ولا جان .. وكان على ظهر عبد المقصود كيلة البرسيم والحقل على مدى فرسخ واحد ففكر أن يضعها على ظهر الجواد ويمضى به وتقدم منه فى غبش الظلمة ليستعمله .. فى هذه الجولة القصيرة ..
     وعندما اقترب من ( مبروك ) رأى فى عينه الألفة التى طمأنته .. فوضع يده على كاحله وطبطب قبل أن يركب وتراجع قليلا ليثب وإذا بالجواد يباغته برفسة قوية ذهبت به إلى المستشفى ..
     وخرج بعدها يعرج .. حاملا العلامة والعبرة لمن يتطاول على ( مبروك ) ..
***   
     وكان الشيخ " عبد الرحمن " يترك للجواد حقل برسيم يكفيه طوال العام عندما اشتد الطلب على البرسيم وارتفع ثمنه جدا وكان الفلاحون يقولون له :
     ـ تترك هذا الغيط بحاله للحصان يا شيخ .. انه يدر عليك أكثر من مائة جنيه لو زرعته خضارا والحصان شاخ ويكفيه التبن والشعير ..
     فيرد عليهم مبتسما :
     ـ أن مبرك قطعة من لحمى وأعز عندى من ولدى ( زيدان ) ولن أجعله يأكل الدريس الناشف وحده فى شيخوخته ..
     وطعن الشيخ " عبد الرحمن " فى السن أيضا .. ولم يعد يذهب بالجواد إلى الموالد ..
     وظل السرج المطهم فى الرواق يذكره بأجمـل أيام حياته .. ذكرى
تنتشى لها نفسه .. وتتفتح براعم قلبه ..
     وكان الفارس يستعمل سرجا آخر إذا ذهب إلى السوق .. أما فى جولات الحقول فكان يركبه من غير سرج ولا لجام .. حتى وهو ذاهب ليرى المياة فى ( الحوال ) ..
     وكان مبروك يتبختر وحده فى المزرعة كلها يستقبل الشمس والهواء وهو يعلم أنه المفرد فيها ..
     والجميع يعرفونه .. ويعرفون صاحبه كفارس عديم النظير .. ومن أهل القرية من عاصر بطولة الفارس الشجاع " عبد الرحمن " فى ثورة 1919 وكان فى وقتها شابا فى العشرين من عمره وعرفوا أنه قاتل الإنجليز وهم متحصنون فى المدرسة الثانوية بأسيوط .. وقتل منهم كثيرا ..
     وألقى الرعب فى قلوبهم .. وتجمعوا عليه ذات يوم وحاصروه ليقتلوه .. وظل يقاتل وحده ..
     وكان أبرع منهم جميعا فى مراوغته ومباغتته ودقة تصويبه فلم يتمكنوا منه وفك الحصار ..
     وظل الشيخ عبد الرحمن محتفظا بالبندقية التى قاتل بها فى هذه المعركة طوال هذه السنين ..
*** 
     وعندما اشتعلت الحرب بين العرب وإسرائيل ,, وأخذ اليهود لأول مرة يغيرون بطائراتهم على القرية المصرية .. كان قلبه يتوهج ويشتعل نارا .. ولم يكن يدرى ما الذى يفعله على وجه التحقيق ..
     ثم وجد نفسه يقول للفلاحين بعد صلاة المغرب :
     ـ إذا سقط .. ناحوم هنا فقطعوه بفئوسكم ..
     كان يحرق الارم ويميز من الغيظ كلما سمع بغارة .. وفى ظهر يوم مرت طائرة فوق رءوسهم وتطلع إليها الفلاحون وهم يعزقون الأرض .. وكانت منخفضة جدا فوق مستوى النخيل .. وسمعوا بعدها صوت المدافع فى المدينة تطاردها بعنف ..
***  
     وفى أصيل يوم من أيام الإثنين .. التقط الشيخ " عبد الرحمن " أزيز طائرة وهو على ظهر الجواد .. التقط الأزيز من بعيد ثم رآها .. شاهد طائرة ( هليوكوبتر ) ناحية الغرب تحلق .. ثم تنزلق هابطة حتى تكاد تمس رؤوس الأشجار الصغيرة .. فوجه مبروك نحوها بسرعة وفهم الجواد الأصيل مقصد فارسه فانطلق فى سرعة الريح .. يطارد الطائرة فى خطوط ملتوية حتى لا يكون تحت هدف الطيار ..
     وأخذ الشيخ عبد الرحمن يتبع الطائرة فى مسارها وعيناه تتوهجان نارا ..
     ورآه الفلاحـون فى الحقول يطلق النـار عليها بشدة .. ثم يميل عن
ظهر الحصان ليتفادى مدفع الطائرة .. ويتعلق بجانب .. وهكذا يميل وينتصب .. والجواد العظيم يسابق الريح طواعا لفارسه ..
     ثم اقتربت الطائرة من الأرض .. واقتربت ووراءها مثل السحابة .. ورأى الفارس الفرصة الذهبية ليصيبها قبل أن تسقط شيئا .. وجد أمامه وهو يتابعها ترعة ( السنطة ) تعترض طريقه وهى ترعة لم يختبر فيها منذ شبابه جواده الأصيل لأنه لم يكن فى حاجة إلى هذا الاختبار ولكنه الآن سيفعلها وهو يطير مع الريح .. فوجه الجواد نحو الترعة .. وأدرك الجواد الذكى غرض فارسه .. فوثب الوثبة الرائعة .. وكتم الفلاحون أنفاسهم وهم يتابعون المشهد من بعيد ..
     وخيل إليهم أنهم يرون الأسطورة .. أسطورة الأساطير رجعت إليهم وبدت أمامهم بصورتها الباهرة وكل ما فيها من جبروت ..
***  
     وعنـدما رجـع الشيخ " عبد الرحمن " رأوا وجهه متجهما وعليه
غضب الأسد الذى أفلتت منه الطريدة .. فقد هربت منه الطائرة وسواء أصابها بطلقاته أو لم يصبها .. ولكنه كان يود أن يشاهدها ساقطة ..
     وكان غيظه قد انفجر على الشىء الذى فى يده .. على بندقيته العتيقة فلوى ماسورتها وهى حامية .. ولم يعجب الفلاحون لشىء عجبهم لرجل يطوى الحديد بين يديه وهو فى السبعين ..





=====================================
نشرت فى مجلة المجلة بالعدد رقم 171 فى مارس 1971 واعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " 1971
=====================================

الأصبع التى تشير


      كان الجو جميلا ومشرقا عندما ركب " زكريا " القطار الى صفط .. وأحس بانتعاش وهو يدخل القرية وبيده حقيبته الجلدية المعتادة التى تآكلت حواشيها وذهب لونها ..
كان وكيلا لشركة ( سنجر ) في الريف ومنذ خمسة عشر عاما وهو يزاول هذا العمل .. بنشاط  كبير وأمانة .. وكان حبه للعمل والتجوال من مكان إلى مكان وملاقاة الوجوه الجديدة هى مبعث وجوده فى هذه الحياة ..
وكان يركب أول قطار فى الصباح ويعود فى آخر قطار فى الليل ..
وكان عمله يتطلب منه أن يمر على القرى البعيدة عن شريط السكة الحديد .. وعن طريق السيارات .. ولهذا كان يمشى على رجليه مسافات طويلة تحت وقدة الشمس ونارها فى الصـيف .. وتحت زمهرير البرد والمطر فى الشتاء .. فإذا بلغ منه التعب أقصاه ركب الحمار ..
وكان يستعير الركوبة من معارفه فى القرى لأنه كان ودودا طيب المعشر وقل من يرفض له طلبا كهذا .. والفلاحون بطبعهم كرماء فى إعارة دوابهم ..
وكانت الساعة تقترب من الخامسة فى يوم من أيام الصيف الجميلة الهواء عندما وقف على باب الشيخ " عبد الرازق " يطلب حماره ليذهب به إلى بعض القرى التى لا يستطيع أن يقطع الطريق إليها بالرجل .. فلم يجد الشيخ ووجد غلامه فأعطاه الحمار بعد أن أسرجه له ..
وامتطاه " زكريا " وركب به السكة الزراعية والشمس تذهب الحقول .. والهواء الخفيف يداعب أوراق الأشجار .. وكان فى تقديره أنه سيجد سبعة عملاء من أثنى عشر فى بيوتهم .. فى ثلاث قرى متقاربة ..   وسيكونون ختام عمل اليوم فى التحصيل ..
وكانت تأملاته تسرح به فى أفاق بعيدة .. والحمار يسير فى الطريق على نهج واحد من السرعة وعلى دراية بكل شبر فيه .. وكان " زكريا " مرحا بطبعه وجلدا .. وعمله نفسه يتطلب منه الكياسة والصبر .. " فماكينة سنجر " عند الفلاحة ليست فى قدر الجاموسة .. التى تدر اللبن والسمن كل يوم .. وتملأ البيت بركة .. والشركة فى نظر الفلاحة غنية .. ويجب أن تنتظر لكل ذات عذر شهرا وشهرين حتى تجد القسط .. كان يعرف هذا كله ولهذا كان لينا فى المعاملة ومرنا .. وأحبه الفلاحون .. ولكياسته كانوا يعطونه قبل أن يطلب منهم ..
وكان محبوبا جدا من الجميع .. وأشهر محصل فى الشركة .. ولذلك يعود آخر النهار بمبلغ يفوق كل ما حصله الآخرون ..
ودخلت الظلمة .. عندما اقترب من " كشك " عبد المقصود على الطريق فنزل عن حماره .. وشرب الشاى .. وكان صاحب الكشك هو آخر عميل له فى هذه الجولة .. وشعر بأن الشاى قد أنعشه وجدد نشاطه .. وكان قبلها يحس بالتعب وبالحاجة لأن ينعس .. يغلق عينيه حتى وهو جالس ..
وكثيرا ما يفعل هذا .. ويروح فى غيبوبة النوم لمدة عشر دقائق .. أو ربع الساعة ثم يصحو بعدها نشطا وقد جدد كل خلايا جسمه للحركة ..
كانت " زبيدة " ابنة عبد المقصود هى التى تعد الشاى وتقدمه " لزكريا " ثم تنسحب إلى داخل الكوخ .. وفى خلال هذه اللحظات القليلة التى يشاهدها فيها ويملأ عينيه من حسنها كان يحس براحة لذيذة .. كان جمالها وسكونها وهدوء حركاتها ورقة صوتها الجميل تدخل السرور على قلبه .. وتجعله أكثر إقبالا على الحياة .. كان يحس بأنها تعامله معاملة خاصة .. تكبره فى نفسها وتعزه ..
وكان جمالها الصارخ .. يملأ شغاف قلبه وطيات نفسه .. ويحس بأنها تصب ترياق الحياة فى شرايينه .. وكلما جاء إليها .. فى كل شهر مرة .. كان يتزود بهذا الترياق للشهر كله .. وعلى أمله يعيش ..
ولم يكن يكره زوجته ولا أولاده .. ولكن " زبيدة " بالنسبة له كانت كالمصباح الخافت الضوء الذى ينير قلبه دوماً بضوء يريح أعصابه ولا ينطفئ أبدا ..
كانت الفتاة تحس بنظراته وتفهم معناها .. وإن لم يوجه إليها كلمة حب قط ..
وعندما انسحب بحماره من فوق الجسر .. وقفت على باب الكوخ الخلفى تشيعه بنظراتها .. حتى استوى على البردعة وحرك رجليه وانطلق ورأت الغبار يتصاعد .. من أرجل الدابة ..
***
ومضى " زكريا وحده " .. فى الليل الذى أخذ يهبط كثيفا وكان يعترضه فى الطريق بعض الفلاحين .. الراجعين .. بمواشيهم من الحقول .. كما كانت تسبقه بعض السيارات .. التى تظهر من حين إلى حين ..
ولكنه بعد نصف ساعة أحس بأن الطريق خلا له وحده .. وكان يسمع شيئا أشبه بصوصوة العصافير وهى تأوى إلى أوكارها ..
ثم سكن كل شيء وهجع مرة واحدة حتى أحس بأنفاس الزرع التى حوله ..
وفى هذا السكون المطبق .. خرج عليه نفر كأن الأرض قد انشقت عنهم .. وطوقوه .. وأطلق واحد منهم على ظهره طلقة خرجت مكتومة .. فلم يسمع لها إلا صوت خافت .. وسقط بعدها زكريا من فوق ظهر الحمار مجندلا على الأرض ..
وانطلق الحمار وحده فى الطريق .. وقد زاد من سرعته .. ولم يكن ذلك لأن حمله قد رفع عنه ولكن لأن حالة من الفزع انتابته بعد أن دوت الطلقة المكتومة فى أذنيه وحده ..
وأحس بحالة الحمار صاحبه عندما وقف على بابه.. ينطح الباب المغلق برأسه وعلى وجهه كل ملامح الرعب ..
وانتفض الشيخ " عبد الرازق " .. ماذا جرى للرجل الغريب .. هل مرض .. فى الطريق .. وترك الحمار يعود وحده .. واذا كان ذلك هو الذى حدث فما الذى يرعب الحمار ..
دارت هذه الأسئلة فى رأسه كالدوامة ..
توجس الشيخ " عبد الرازق " شيئا .. وخرج معه نفر من أهل القرية إلى الطريق ..
وبحثوا عن الرجل الغريب فى كل مكان فلم يعثروا له على أثر .. فعادوا فى أخريات الليل وقد زادتهم الحالة سوءا وغما ..
وكان الشيخ " عبد الرازق " أكثر الناس حزنا على الرجل الغريب ..
وفى مطلع النهار وجد الرجل الغريب مقتولا .. بجانب الطريق ..
وأخذ رجال الأمن .. يبحثون عن القاتل وأتعبهم البحث ولم يتوصلوا بعد جهود طويلة إلى شيء فطووا أوراقهم .. وأسدل الستار ..
***
وكما يحدث فى كل القرى ظل دم الرجل المسكين يدور فى رؤوس الناس ..
ومرت فترة طويلة حتى ظن أهل القرية أن الحادث قد نسى تماما
ولكنه فى الواقع كان يعمل فى داخل النفوس الطيبة .. وكان يعمل فى داخل نفس الشيخ " عبد الرازق " على الأخص حتى كان يقض مضجعه ..
***
  وحدث فجأة أن سقط لسان واحد من الجناة فى مجلس سمر فأخذ يروى بلب المأخوذ أنهم كانوا فى تلك الليلة سبعة .. ولكن الذى أطلق النار على " زكريا " هو شخص واحد وكل ما يمكن أن يقوله عنه ان أصبع السبابة فى يده اليمنى مكسورة بسبب الحادث .. لأنه الصق المسدس بظهر القتيل وضغط على الزناد حتى لا يسمع صوت الطلقة .. فانكسرت أصبعه بعدها ..      وكيف يمكن البحث عن رجل مثل هذا .. هل نستعرض أيدى الناس فى كل القرى القريبة والبعيدة .. انه شيء أشبه بالبحث عن سمكة فى جوف المحيط ..
ومرت سنوات وأصبح حادث الرجل الغريب كغيره من الحوادث التى تحدث فى القرى وتطويها الأيام ..
***
وذات ليلة من ليالى الصيف .. كان الشيخ " عبد الرازق " ساهرا فى " جرنه " فسمع فجأة طلقات نارية شديدة فتصور اللصوص سطوا على إحدى العزب القريبة التى يمكن أن يسمع منها صوت الطلقات .. ولكن الطلقات اقتربت منه وأصبحت على الجسر .. وعلم أن عروسا تزف الليلة وهى قادمة من قرية مجاورة وتستقبل فى قريتهم بالزغاريد والرصاص كما هى العادة فى الريف ..
ولما مر الموكب أمامه كأشباح تتحرك فى الظلام .. اطلق الرجال فى اتجاهه الرصاص فدوى وهز سكون الليل ..
واراد الشيخ " عبد الرازق " أن يحيى الموكب ويرد عليهم فنظر حواليه فلم يجد مكانا آمنا للتصويب من أن يبتعد عن البيوت والبساتين ويطلق فى الأرض الفضاء تجاه الترعة فأطلق ثلاث رصاصات .. وتبعها رصاص كثير من الموكب نفسه أطلق فى كل اتجاه ..
***
ولما أشرق نور الصباح عثر أهل القرية .. على رجل مقتول تحت الجسر .. وكانوا يحسبونه أول الأمر نائما فلما حركوه وجذبوه من يده اليمنى وجدو أصبع السبابة مكسورة ..
وكانت الأصبع تشير إليه وحده .. فلم يكن أحد يعرف الرصاصة التى صرعته فى الليل ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 5935 بتاريخ 26/3/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
=========================





















 
فى المتجر

هبطت سعاد من الأتوبيس فى شارع 26 يوليو وهى تتلوى لشدة الزحام من العذاب واتجهت كعادتها فى كل صباح إلى المتجر الذى تعمل فيه بشارع قصر النيل ، وكانت الساعة تقترب من التاسعة وبقى على افتتاح المتجر بضع دقائق .. فمشت الهوينا تستعرض واجهات الحوانيت .. ولكنها لما أحست بعد عدة خطوات بأن الجو أخذ يكفهر وينذر بالمطر .. أسرعت لتدخل المتجر قبل نزول المطر ..
وأخذت الريح تعوى بين ممرات العمارات العالية وترج النوافذ وتعصف بالأوراق الملقاة فى الطريق محدثة دوامات صغيرة ..
فحاولت سعاد أن تتقى الريح بالسير تحت البواكى ما أمكن ولما اقتربت من المتجر وجدت أبوابه لا تزال مغلقة .. فوقفت فى جانب وطال وقوفها ..
وأشفق عليها شاب كان يملك دكانا صغيرا قريبا من المتجر .. فأخرج لها كرسيا ودعاها للجلوس محتمية تحت العارضة .. فجلست صامتة منزوية ..
وكانت قد رأت هذا الشاب من قبل وهى ذاهبة إلى عملها وراجعة منه .. وابتاعت منه شيئا .. منذ قرابة شهر .. فهو يبيع أدوات الزينة المستوردة والسجائر ..
وكانت تشاهده متأنقا فى ملابسه ووسيما ومهذبا للغاية .. ولكنها لم تعرف أنه مقطوع الساق إلا فى هذه المرة .. فتألمت له وأحست بالشفقة عليه وظلت تلاحقه بنظراتها وهى جالسة فى الخارج ..
واشتد المطر وأخذ فستانها يتعرض للماء المتساقط .. فتقدم إليها " أحمد " بأدب وأفسح لها الطريق فى داخل الدكان .. ووقف هو فى الخارج وعلى وجهه البسمة التى لا تفارقه يتطلع إلى الماء المنهمر بغزارة وإلى حركة المرور التى أخذت تشتد فى الطريق ..
وكان اليوم هو يوم الاثنين بداية الأسبوع فى الحى التجارى المتدفق بالحياة .. والدكان فى شارع الشواربى وقد اتخذه أحمد بعد الحادث الذى وقع له منذ عامين .. وهو يهبط من الأتوبيس المزدحم عند دوران الإسعاف فمرت فوقه العجلة الخلفية .. وبترت ساقه ..
وبعد العملية الجراحية وما تلاها وسبقها من العذاب وجد نفسه وهو فى السنة الثانية بالجامعة .. مضطرا لأن يعيش ويعول أمه وخمسة أخوة صغار .. فقد عاجله القدر بوفاة أبيه فى السنة التى أصيب فيها ..
وباع شيئا استغنوا عنه فى البيت وافتتح هذا الدكان الصغير ..
وبعد أربعة شهور من عمله الجديد دارت العجلة وشعر بحرية العمل وبلذة الكفاح فى سبيل الرزق ..
وكان أمينا قنوعا لا يشتط فى الثمن ويكتفى بالربح القليل وعلى درجة كبيرة من النشاط فيأتى بالأشياء النادرة فى السوق فكثر زبائنه من الجنسين .. وعلى الأخص من السيدات اللواتى كن يتلهفن على كل بضاعة تأتى من الخارج .. وكن يفضلنه على غيره لأنه مهذب ووسيم وأعرج .. والمرأة تحمل شحنة دافقة من العواطف لكل عجز يصيب الرجل ..
وكان مضطرا إلى السهر إلى منتصف الليل لأنه يبيع السجائر ويفتح دكانه مبكرا كذلك للزبائن الذين يشترونها قبل تناول الإفطار وكانت الحركة الدائبة تدفعه إلى نشاط أكثر ولا تجعله يحس بالتعب ..
وكان بيته فى الناصرية بحى السيدة فكان يذهب ليستريح ساعتين وفى وقت الغداء .. وأحيانا يواصل العمل ويتغدى فى المحل اذا ما شعر أن الحركة فى السوق تتطلب ذلك ..
***
وظل المطر ينهمر " وسعاد " جالسة فى مكانها من الدكان تتطلع إلى البضائع الموضوعة على الأرفف الصغيرة بتنسيق جميل ..
واقتربت الساعة من العاشرة صباحا ومتجرها لم يفتح بعد فساورها القلق .. وأخيرا جاء أحد عمال المتجر وعلق لافتة وأخبرها أن زوجة صاحب المحل قد ماتت فى الليل وسيغلق المتجر اليوم بسبب ذلك ..
وكانت " سعاد " تود أن تذهب فى الحال بعد أن سمعت هذا الخبر .. وتعود إلى بيتها ولكن أحمد أبقاها حتى تخف حدة المطر ..
وكانت لا تستطيع التحرك فعلا تحت هذا السيل فجلست .. ومرت من أمام الدكان فى تلك الساعة عجوز تحمل على عاتقها زكيبة ممتلئة إلى أقصاها بالورق وأشياء جاءت بها من العمارات المجاورة .. وكانت تعبر الشارع فى كل صباح من هذا الموضع فى مثل هذه الساعة .. ولم يمنعها المطر ولا شدة الريح من السعى وراء رزقها .. ولم تتأخر دقيقة واحدة ..
كانت سنها تزيد على السبعين .. وكان كلما بصر بها " أحمد " الشاب انتفض .. كانت مثالا حيا للسعى الدءوب وراء لقمة العيش وحركتها الدائبة حياة لها .. أنها لا تتوقف .. أنها مثل للفقير الذى يظل يناضل فى سبيل الحياة وما أقل رزقه .. ليظل دوما المثل الأعلى للنضال ..
وكان يكبرها فى نظره وتتضخم أمامه وتتضخم وكلما شاهدها ابتسم فى وجه الحياة العاتية .. وكلما وجدها تعبر الشارع يهم بمساعدتها .. ولكنها تدفعه برقة وتقول :
ـ خليك يا ابنى فى دكانك ..
ولكن فى هذه المرة أسرع بعكازه إليها .. وأمسك بيدها فى الأرض المنزلقة ..
ونظرت " سعاد " إليه وهو يساعد العجوز متوكئا على العكاز وأخضلت عيناها بالدمع ..
***
ولما خفت حدة المطر .. انصرفت " سعاد " إلى بيتها ..
***
وفى الصباح التالى .. افتتح المتجر .. وتقدمت " سعاد " بالتعزية لصاحبه ..
وجلست إلى الخزانة ونسيت نفسها فى دوامة العمل الشاق .. وكان ذهنها يسترجع من حين إلى حين صورة الشاب الذى وقاها بالأمس من البرد والمطر ..
ولما انتهت من عملها فى المساء .. مرت على باب دكانه .. وحيته وأصبحت تتخذ طريقه إلى بيتها كل مساء ..
***
ومرت الأيام والشهور وهى تمر أمامه .. وتجلس أحيانا بجانب دكانه منتظرة افتتاح متجرها .. وهو مؤتنس بجلستها هذه يستقبل رزق اليوم من وجهها الصبيح .. كانت فى سن العشرين .. بيضاء سوداء الشعر فى نعومة .. جميلة تقاطيع الوجه .. لها عينان براقتان .. وأنف دقيق .. وشفتان رقيقتان حالمتان .. وكانت قامتها رشيقة .. وفى صوتها نعومة الريفيات وخجلهن .. وإن لم تبرح القاهرة قط وتجيد إلى حد البراعة انتقاء ملابسها فى بساطة العاملة التى تحسن اختيار الأشياء بأرخص الأسعار ..
وكان لها حوالى سبعة شهور فى هذا المتجر وسنتين فى متجر قبله .. فتمرنت على أعمال الخزانة وبرعت فيها ..
ومع ذلك نقص حسابها أربعة جنيهات ذات مرة فدفعتها من مرتبها الصغير .. أدركت أنها أخطأت وأعطت " زبونا " ورقة بخمسة جنيهات وهى تحسبها جنيها ..
وفى الشهر التالى نقص الايراد اليومى عشرة جنيهات مرة واحدة .. وأحست " سعاد " بالدوار .. وكان صاحب المتجر هو الذى يقوم بعملية الحساب .. فاكتشف هذا النقص .. وخرجت " سعاد " من المحل وهى ترتعش وعيناها تفوران بالدمع ..
ورأها " أحمد " على هذه الحالة وهى خارجة من المتجر .. ولم تحيه كعادتها ..
وفى الصباح سألها عن الخبر .. فقالت بصوت خافت :
ـ أبدا لا شيء ..
ولما ألح عليها أخبرته بما جرى أمس .. فأخرج لها العشرة جنيهات من جيبه ..
ونظرت إليه طويلا .. ورفضت ان تأخذها ثم تناولتها أخيرا ودخلت بها المتجر ..
***
وبعد هذا الحادث أصبحت تبغض صاحب المحل وكلما اقترب منها .. تحس بأصابعها ترتعش على الألة الأتوماتيكية كانت عيناها تحدثانها بما فى أعماق نفسه من خساسة .. وكان قد طلب منها ذات مرة أن يوفر عليها مشقة ركوب الأتوبيس فى المساء ويوصلها بسيارته إلى بيتها .. ولكنها رفضت بأدب وقالت له بأنها متعودة على هذه المشقة ولا تود أن تتعبه وتكلفه المسير فى طريق غير طريقه ..
ومن وقتها بدت الكراهية فى عينيه وأخذ يشيع الاضطراب والذعر فى نفسها ليحطمها ويجعلها تخضع لرغباته ..
وكانت تجد الأمان فى تلك اللحظات التى تقضيها كل صباح بجوار دكان " احمد " وتأنس لحديثه وتجده يرتفع بتفكيره ومشاعره عن مستوى الشبان الذين يعملون معها فى المتجر ..
وتود لو تعرف الكثير من خصوصياته مع من يعيش وأين يأكل .. ومن الذى يغسل له قميصه ويهيئ له فراشه .. كانت هذه الأشياء الصغيرة تشغلها .. ولكنه كان غامضا لا يحدثها عن نفسه قط .. وزادها هذا الغموض تعلقا به ..
***
وذات صباح الفت دكانه مغلقا .. فاضطربت .. اذ لم يكن يغلق مطلقا لا فى أيام الجمع ولا الآحاد .. وخشيت أن يكون ألم به حادث وودت لو تسأل عنه أصحاب الدكاكين المجاورة .. وكانت تشعر بلهفة على السؤال .. ولكن لم تجرؤ .. خافت أن يقرأ الناس فى السؤال سر قلبها ..
***
وفتح الدكان بعد انقطاع يومين .. ولما شاهدته من بعيد جرت نحوه فرحة .. وأخبرها أن أمه كانت فى أشد حالات المرض وأنه اضطر أن يلازمها ويأتى لها بطبيب .. فعرفت أن له أما تعيش ..
***
وذات ليلة وبعد إغلاق المتجر .. وقفت " سعاد " أمام دكان أحمد لتبتاع منه زجاجة عطر ووجدت هناك سيدتين أنيقتين تشتريان أشياء فتنحت جانبا حتى انصرفتا .. وطال انتظارها لهما .. واحمد ينظر إليها مبتسما ..
وقالت له وهى تتقدم باسمة أمام البنك :
ـ لو كنت زوجتك .. لمنعتك من بيع الأشياء الخاصة بالنساء ..
ـ أحمد الله .. على أنك لست كذلك .. والا لقطعت عيشى ومت جوعا ..
ـ ولماذا ..؟ أى شيء أبيعه اذن ..؟
   ـ حاجات الرجال ..
   ـ الرجال ينسون أنفسهم .. ويشترون للنساء .. ولكن لماذا هذا التحكم .. هل أنت غيورة ..؟
   ـ غيورة جدا ..!
   ـ مسكين زوجك ..
ورمقته بعينيها السوداوين الناعسين وقد ازداد فيهما البريق .. كانتا مشبعتين إلى أقصاهما بالشوق .. والتقى بعينيها مليا ثم حول وجهه ..
***
ولما مشت متمهلة فى الشارع الذى يسطع بالأنوار .. كان يود أن يخرج من مكانه ويتبعها فى كل خطوة ويقبل مواقع أقدامها .. كان حبه لها حبا جنونيا ملتهبا وآخذا بشغاف قلبه ..
ولكنه كان يكتم عواطفه فى صدر كالجب .. وكان قادرا على ذلك بارادته القوية .. فما دام قد أبعد ذهنه عن الزواج كلية بسبب ما حدث له فليس هناك ما يدعو للعواطف اطلاقا ..
كان يراها جميلة إلى حد الفتنة .. وليس من الإنسانية أن يشوه وجه حياتها بعجزه وعكازه ..
كان هذا احساسه بالنسبة للانثى عموما .. ولقد أفرغ طاقته وهو يبيع لهن بضاعته .. فكن يسمعن منه الكلمة الحلوة والمعاملة التى تدل على لباقة ومعرفة بنفوس البشر .. ومن زبوناته من كانت تحبه وتشتهيه بعينيها .. ولكن يمنعها الخجل الفطرى أن تقول له ما فى قلبها ..
***
وكانت " سعاد " تشعر بسعادة غامرة .. فى اللحظات التى تقضيها معه فى الصباح .. كانت تمر كخطف البرق .. كانت تشعر معه بأنوثتها وتنسى كل المتاعب التى تلاقيها فى المتجر .. وتنسى كل الذين يلاحقونها بنظراتهم النهمة فى الطريق .. وفى الأتوبيس وفى كل مكان تتحرك فيه ..
وكان يسعدها أن تسمع منه كلمة الزواج وكانت تدور حول هذا الموضوع وتلف وهى شاعرة بخفقان قلبها ..
كانت تحس أن هناك إنسانا شقيا .. وضائعا .. وعليها أن تمد له يدها وتضمه إلى صدرها .. لتخفف من عذابه ..
ولكنه كان يفلت من يدها دائما .. وجعلها جمودة وصلابته تيأس ..  
ومرت أيام أخرى من الحياة .. وجاءت كعادتها فى الصباح وجلست بجانب الدكان تنتظر افتتاح متجرها .. ولاحظ أحمد أن عينيها متورمتان .. ووجهها مصفر ..
ولما سألها عن حالها .. ترقرق الدمع فى عينيها ولم تنبس ..
وحاول أن يجعلها تتكلم فلم يستطع .. ومر أسبوع وهى تحاول ألا تلتقى به .. كانت فى الصباح تدخل مباشرة إلى المتجر وفى المساء غيرت طريقها ..
وعجب لهذا منها وما أساء إليها قط وازداد قلقه عليها لما رأى شحوب وجهها والحزن الذى يخيم على محياها ..
***
وذات ليلة اغلق دكانه .. وانتظر على باب متجرها وهى خارجة .. ولكنها لما شاهدته من بعيد .. انفلتت منه .. وتبعها فى الشارع الضيق الذى كانت تسير فيه إلى موقف السيارات .. ولكنها كانت أسرع منه واختفت فى شارع جانبى وغابت عن بصره ..
***
وحوالى الساعة الثامنة مساء فى يوم من أيام السبت وكان راجعا من عند تاجر من تجار الجملة يتعامل معه .. لمح " سعاد " تسير أمامه فى شارع عبد الخالق ثروت .. فأسرع فى مشيته ليلحق بها .. ووجدها تدخل فى عمارة كبيرة .. فدخل وراءها .. ولما إجتاز المدخل .. ألفاها قد ركبت الأسانسير قبله .. واندفع إلى المصعد الثانى وضغط على الدور الثالث .. وخرج إلى الطرقة .. فوجد الأبواب التى أمامه كلها مغلقة واللافتات التى فى هذا الطابق تشير إلى مكاتب شركات .. ومحامين انتهت مواعيد عملهم .. فأغلقت وشملها الظلام من الداخل ..
فمشى نحو المصعد .. وكان لا يزال فى مكانه وصعد إلى الدور الأخير .. ثم أخذ يهبط السلالم على مهل .. وهو يحدق فى الأبواب المفتوحة فى كل طابق ..
وكانت العمارة على ضخامتها .. وعلوها .. ليس بها حركة على الإطلاق كأنها خلت من السكان .. فطالعه فى كل دور السكون الموحش الذى يرجف القلب .. وكان النور يضاء مرة فى طابق ولا يضاء اطلاقا فى أخر ..
وهبط وهو يعجب من تصرفه فلو شاهده البواب وهو يتلصص على الأبواب هكذا فماذا يكون حاله ..
وظل يهبط وهو يحدق فى كل اللافتات والأبواب المفتوحة والمغلقة وفجأة دار فى رأسه خاطر .. ألهب وجدانه وجعل عرقه يتصبب ربما كانت فى طريقها إلى شقة عشيق لها فما شأنه حتى يتبعها هكذا كالمجنون ..
وفيما هو يستدير فى الطرقة الدائرة وقد يئس من وجودها .. واستشعر الحماقة لمتابعتها .. لمح ذيل فستانها فى شقة مفتوحة فارتعش ودخل كالقذيفة .. ووجدها جالسة شاحبة الوجه على كنبة قديمة فى الردهة .. ولما رأته اضطربت ولكنها لم تفتح فمها ..
***
وجلس بجانبها على الكنبة وكان النور خافتا ورائحة شيء أشبه بالمخدر القوى انبعث من الغرفة الوحيدة المضاءة فى الشقة .. والمغلقة الباب ..
وخيم سكون قاتل عصف بكيانه .. " أما سعاد " فكانت شاحبة .. وعيناها تحدقان برعب فى الباب المغلق .. وأدرك أنه فى عيادة طبيب عندما مرت ممرضة دميمة الوجه فى رداء أبيض نظيف .. وابتسمت له ابتسامة صفراء .. وغابت قليلا فى مكان أشبه بالسرداب .. ثم عادت وعلى فمها نفس الابتسامة ..
وقالت لسعاد لما رأت شحوب وجهها :
- ما تخافيش يا هانم .. ما دام لسه فى الثالث .. اطمئنى .. وكأنما طعن " أحمد " بخنجر .. ولكنه تماسك ..
ووضحت الصورة .. ولم يسأل " سعاد " عن شيء ابدا .. لم يسألها عن الذى فعل بها هذا .. فهو واحد من الرجال الكثيرين الذين يلتقى بهم فى الطريق .. وقد يكون صاحب المتجر .. وقد يكون غيره .. يحمل نفس الوضاعة ..
وما جدوى السؤال الآن .. إنها جريمة نشترك فيها جميعا .. وقد كان رأسه يضرب كالمطارق .. وتخير لحظة غابت فيها الممرضة فى الداخل .. وهمس فى أذن سعاد بشيء .. ولما وجدها متراخية أنهضها بقوة ..
وبارحا العيادة وهما يسرعان فى السير ..
وكان يفكر بعد أن خرج من العمارة إلى الشارع الساطع بالأنوار .. فى فرحة أمه بسعاد عندما يذهب بها إلى بيته ..
========================== 
نشرت فى مجلة المجلة بالعدد 139 عدد يولية سنة 1968وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
=========================





ليلة فى شنغهاى



 شنغهاى مدينة جميلة بل أجمل مدن الصين وهى ضخمة وواسعة كالمحيط .. ولهذا يصعب على الغريب التجول فيها من غير دليل .. وكان دليلى فتاة صينية فى العشرين من عمرها ناعمة الصوت متوسطة الجمال .. وكانت مخلصة لعملها ومتفتحة وفخورة .. بمدينتها العظيمة وكنت مستريحا إليها راضيا بصحبتها ..
وذات ليلة وكنا نزور معا قصر الثقافة .. وجدت فى احدى القاعات شابة صينية واقفة على المنصة تشرح لبعض الزوار الغرض من إنشاء هذا القصر ..
وكان الزحام على أشده حولها والقاعة فسيحة جدا ولكننى تصورت أنها تخصنى بالحديث وحدى ..
كانت انجليزيتها أقل فى الجودة من مرافقتى .. ولكن الصوت كان أحلى جرسا والوجه أعذب الوجوه نضارة ..
كانت الشفتان رقيقتين وفى لون الكريز والعينان سوداوين براقتين وفى الجفن الفتحة الصينية كأنها عملت بمشرط لتكسب العين جمالا يجل عن الوصف ..
وكان شعرها الأسود غزيرا وقد ضفرته فى ضفيرتين طويلتين كأنهما ذيل جواد عربى أصيل ..
ووقفت ربع الساعة استمع إليها وأنا معلق البصر مأخوذا .. فلم أر مثل هذا الجمال قط فى الصين ..
ورحت وجئت فى رحبات القصر ثم عدت إليها .. فوجدت فى مكانها وحولها نفس الجموع ونفس الزحام ..
ولما بارحت القصر ومعى مرافقتى إلى الفندق .. لم أحتمل المكوث فيه طويلا .. واتجهت مرة أخرى إلى القصر وأنا شاعر بقوة تجذبنى نحو هذه الشابة ووجدتها فى الطرقة الخارجية فى طريقها إلى الخارج .. فأبديت لها رغبتى فى أن أشاهد المكتبة مرة أخرى .. فأظهرت أسفها لأنها أغلقت وأضافت وهى تبتسم :
ـ فى صباح الغد يتسع الوقت أكثر لتشاهد كل أقسامها ..
فشكرتها ..
وخرجت معها إلى الشارع وسرنا متمهلين ..
وكانت المصابيح فى الطرقات تلتمع .. والأنوار تتلألأ من نوافذ البيوت العالية .. والمدينة كلها تبدو بعماراتها الشاهقة ونوافذها الزجاجية من غير مصاريع خشبية .. كأنها حبات من الماس تتوهج ..
وسألتنى :
ـ فى أى فندق تقيم ..؟
    ـ نسيت اسم الفندق فى الواقع ..
    وضحكت ..
ـ ما أجمل هذا .. وكيف تذهب إليه إذن ..؟
ـ أعر ف الطريق .. كما يبدو لى ..
ـ ولكنى على أى حال سأرافقك .. فلا يمكن أن أتركك وحدك فى هذه المدينة ..
    ومشينا مترافقين فى المدينة الكبيرة ..
لم نحاول أن نركب التروللى .. أو الترام خشية أن أضل الطريق لو فعلنا ذلك .. وقدرت أن السير على الأقدام سيهدينا إلى الفندق ..
وبعد ساعة كاملة من السير .. والدخول فى الشوارع الكبيرة والصغيرة لم نهتد إلى الفندق .. كانت كل الشوارع والبيوت والفنادق متشابهة فى نظرى .. فى وهج الليل وتألق المصابيح من كل النوافذ البلورية ..
وخجلت من نفسى لأننى كنت السبب فى تعبها .. ولكنى كنت فى أعماق نفسى أشعر بالسعادة الغامرة لأنها رافقتنى فى هذه الجولة .. فقد سعدت بصحبتها والتمتع بجمالها .. وكانت مشيتها تثيرنى كلما تقدمتنى ..
وكانت شنغهاى تذكرنى ونحن نسير فى شوارعها .. بالمدن الغربية فكثير من البيوت تحمل نفس الطابع ولا تزال عليها ارقامها بالحروف اللاتينية ..
وشعرت بالجوع .. وكان قد فاتنى ميعاد العشاء فى الفندق .. وأخذت أبحث عن مطعم فى الشوارع التى نسير فيها .. فلما لم أجد حدثتها عن ذلك .. فقالت برقة :
ـ الأحسن أن نذهب إلى ناحية الميناء .. حيث توجد مثل هذه المطاعم ساهرة فى استقبال البحارة ..
***
ودخلنا حانة صغيرة .. ممتلئة بالرواد من الصينين .. ورمقونا بعيون حادة .. ثم عادوا إلى طعامهم وشرابهم ..
ولم يكن فى الحانة راقصة .. ولا مغنية .. وكان هناك " جرامافون " يذيع موسيقى صينية خفيفة ..
وفوضت الشابة .. أن تختار لنا أصناف الطعام ..
وجاء الجرسون بالشوربة تسبح فيها الكرشة .. ثم شريحة من لحم العجل والأرز .. والتفاح .. وشعرت بعد الطعام بالدفء .. وكان الجو قد أخذ يبرد .. وكنت قد تركت معطفى فى الفندق ..
وأسرنى الجو الصينى الغريب الذى وجدته فى الحانة .. الموائد .. والستر الحريرية المزركشة .. والمصابيح الخافتة الضوء .. وكان العمال جميعا يرتدون الملابس الكحلية .. نفس الزى الذى ترتديه الفتاة ويأكلون ويشربون دون صخب .. ولم يكن هناك نساء فى الحانة غير فتاتى .. ولكن أحدا لم يحتك بها ..
وتولد عندى احساس قوى بأننى المكلف بحمايتها فى هذا الليل .. فأنا الذى جررتها إلى السهر وإلى الوجود فى هذا المكان .. وربما ما دخلته من قبل أبدا ..
***
وخرجت من الحانة فى حوالى الساعة الحادية عشرة .. ومشينا على رصيف الميناء ..
وكانت البواخر تصفر .. وتقذف السماء بدخانها .. بواخر ضخمة من عابرات المحيط .. وأخذت بضخامتها ..
وكانت مصابيحها تنعكس على الماء .. وصوت المحركات والروافع يدوى والجلبة لا تزال مسموعة رغم الليل .. والجو كله مشحون بالعمل ..
وبدأنا نحس ببرد الليل .. ولكنا لا نعبا به وفاض علينا دفء مشاعرنا وأخذنا نتحدث .. حدثتنى عن شنغهاى ومينائها .. والحركة التجارية التى فيها .. وكيف كان يقسمها المستعمرون .. ويعلقون لافتة على حدائقها تمنع الصينين من دخولها وتشعرهم بالإذلال ..
وكانت تشعر بالفخر والزهو لكل التطور الذى حدث فى حياتهم ..
وكنت مسرورا لسرورها ومزهوا مثلها ومرت ساعات لم نحس بها .. لفرط شعورى بالسعادة ..
كان جمالها آسراً.. وأقبلت عليها بكل جوارحى .. وقد تفتح قلبى لها وشعرت بفيض من الإحساسات الدافقة .. كاد أن يدفعنى إلى أن أصرح لها بحبى وبكل ما يعتلج فى قلبى .. ولكن غالبت نفسى فى آخر لحظة حتى لا أتعرض للسخرية .. لما بينى وبينها من فارق كبير فى السن .. ولأن لقاءنا لم يحدث سوى من ساعات قليلة ..
***
ولما تعبنا من التجول فى الليل سألتنى ونحن نبتعد عن الميناء :
ـ أمازلت ناسيا اسم الفندق ..؟
    ـ أجل .. فى الواقع ..
فصمتت .. ثم قالت بعد أن استقرت على شيء بدا لى أنها فكرت فيه طويلا :
ـ نذهب إلى بيتنا .. وسترحب بك أمى كثيرا ..
وفهمت من هذا أن والدها غير موجود ..
وسرنى أن يكون هذا هو نهاية المطاف ..
***
وبلغنا البيت فى منتصف الليل .. وكان السكون يخيم على الحى كله .. والبيت من طابقين وأشبه ببيوتنا .. وأجلستنى فى قاعة الأضياف فى الدور الأول .. وغابت عنى وسمعت فى الداخل حوارها بالصينية مع والدتها ..
ـ وجاءت بالشاى الصينى .. والتفاح ..
ولم أر أمها مع أننى مكثت فى غرفة الضيوف أكثر من ساعة .. ولعل السيدة الكريمة أعفتنى من هذا اللقاء فى الليل لتعبى وحاجتى إلى النوم ..
وأدركت فى الليل بعد أن مررت فى الحى الهادئ أن الطباع الشرقية هى التى جعلت الفتـاة تختار أن تدخلنى بيتها بعد أن سكتت نآمة الحى وأصبح دخولى كغريب لا يلاحظه أحد ..
***
وبعد الشاى والحديث .. تقدمتنى الشابة الجميلة .. الى غرفة جانبية فسيحة .. وضع فيها سرير كبير ودولاب كبير .. وطاولة للزينة وبجانبها تمثال " لبوذا " دقيق الصنع .. وكانت الستائر الحريرية على النوافذ مسدلة كلها وجو الغرفة وأثاثها يتحدثان عن بيت كريم ..
ولا أدرى من أين جاءت لى ببيجامة رجالى .. وتمددت على السرير بعد أن أطفأت نور المصباح ..
***
ولم يطاوعنى النوم .. ظللت ساهرا وقبل الفجر .. غلبنى النعاس وأحسست بما يشبه الحلم .. بشفتين حارتين تلامسان شفتى فى خفة .. طبعتا قبلة ..
واستدارت ذراعان ناحلتان على صدرى .. وأحسست بضمة لم أشعر بمثل لذتها فى حياتى ..
ولما فتحت عينى لم أجد أحدا بجوارى ..
هل كان حلما .. أم حقيقة .. هل أرادت الفتاة التى تعيش فى دوامة العمل والروتين الوظيفى .. أن تكافئ رجلا غريبا .. أشعرها لأول مرة بأنها أنثى ..
ولما خرجت من البيت فى الصباح المبكر ومشيت قليلا فى الشارع وجدت أن الفندق الذى بحثت عنه يقع فى الواجهة المقابلة ..!







======================= 
نشرت القصة فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
========================




























الأصلع

هل قرأت قصة الرجل الذى يلبس شارة الحداد لدستويفسكى .. وكان يلتقى بالبطل كلما حل فى مكان حتى أصبح يكرهه كرها مرا ويبغضه بغضه للموت ..
لقد التقيت بهذا الرجل فى مجرى حياتى ، ولكنه لم يكن يضع شارة الحداد كأحد أبطال دستويفسكى .. بل كان اصلع مسطح الرأس .. منتفخ الوجنتين قصير العنق يتطلع إليك بعينى فأر ..
عينين ضيقتين رجراجتين تبغضهما من أول نظرة لأنهما تستشفان أغوار نفسك وتعريانك من جلدك ..
ولقد حطت على هاتان العينان لأول مرة فى مطعم صغير بحى الحسين فى الوقت بين العشرين والثالث والعشرين من شهر يوليه سنة 1942 ..
وكان المولد قد انقضى منذ خمسة أيام .. وكنت الزبون الوحيد فى المطعم لأن الوقت لم يكن وقت غداء .. أو عشاء ..
وإذا بهاتين العينين الضيقتين تحدقان فى وجهى بشراسة وأنا امضغ الكبدة .. فتوقف فكاى عن المضغ وشعرت بانسداد الحلقوم .. ووقع فى تقديرى لأول وهلة من الحالة التى رأيت عليها الرجل إنه يبحث عن شخص منذ عشرات السنين لثأر قديم ..
فلما وجده فى هذا المكان الصغير الذى لم يكن يتوقع وجوده فيه شعر بفرحة كبرى .. انتفضت لها جوانحه .. واتسعت عيناه ثم ضاقت من فرط السرور الباطن الذى رقص له قلبه .. وفاضت تعابير وجهه بأشياء عجزت عن وصفها فى هذه اللحظة ..
وعندما لوى وجهه عنى بعد قليل ليدفع الحساب للجرسون استطعت أن أقيس طوله وعرضه .. كان سمينا قصير الساقين يرتدى بدلة رمادية كاملة .. وخيل إلىَّ من فرط تكسرها وتثنى أطرافها أنه ينام بها ..
وكان قميصه متسخا وحذاؤه أكثر اتساخا حتى قدرت أنه لم ينظفه منذ بداية المولد ..
وكنت اتوقع أن ينهض بعد أن دفع الحساب ويذهب لشأنه ولكنه ظل جالسا يتابعنى بنظرات أشد ضراوة ..
وتيقنت بعد أربع دقائق من التحديق المتصل اننى شبهت له وأنه يتبع رجلا له مثل ملامحى تماما ..
وخطر فى بالى لأريحه وأريح نفسى أن اذهب إليه وأبين له ما فى تصوره من خطأ .. ولكننى تركته على حاله عندما وجدته قد ابتاع جريدة مسائية .. وأخذ بقلب وجهه بين صفحاتها سريعا ثم طواها ونهض على التو ..
وكدت انساه تماما .. فقد مر يوم ويوم مثله .. لم أره فيهما .. ثم وجدته يدخل ورائى من مدخل فندق « رمضان » بالسكة الجديدة .. ويرتكز على البنك أمام موظف الفندق ..
وصعدت إلى غرفتى وتركته لأتجنب النظر إلى طلعته ..
***
والتقيت به بعد ذلك مصادفة فى شارع الغورية .. مرتين مواجهة .. وفى كل مرة كان وجهى يحتقن من الغضب ..
وايثارا للسلامة .. وقد تكون هذه المقابلات كلها مجرد مصادفة .. وقد يكون هذا الرجل الأصلع المخبول يتبعنى هكذا للوثة فى عقله .. إيثارا للسلامة .. إنتقلت إلى شارع كلوت بك حيث ظلام الحرب والبواكى والمواخير .. والحشد المتدفق من الجمهور .. وعساكر الإنجليز وحلفائهم .. وضعت فعلا فى هذا الزحام ..
ومرت خمسة أيام طيبة .. أحسست فيها براحة نفسى وهدوء أعصابى ..
وفى عصر اليوم السادس .. وجدته أمامى وأنا واقف على دكان سجائر تحت البواكى .. وكانت نظرته صارمة متحدية .. حتى حسبته يسخر من هروبى وانتقالى من حى إلى حى .. وزادتنى نظرته مقتا له .. وسببت لى حالة من الرعب أفزعتنى وجعلت العرق يتفصد من جبينى ..
وكان يتحتم على أن أبقى فى القاهرة إلى منتصف سبتمبر لأعمال تتعلق بنزاع على وقف فى أرض شريف .. وما زلت فى بداية شهر أغسطس .. وانتقالى إلى فندق ثالث فى حى آخر سيزيد من مرض أعصابى ويجعلنى فى حالة أقرب إلى الجنون ..
***
وتركت المقادير تجرى ..
وكل ما أستطعت أن أفعله هو أننى تخيرت مقهى بجوار كوبرى « أبو العلاء » فى حى بولاق لأقضى فيه السهرة بدلا من مقاهى العتبة .. حيث يكثر الإنجليز السكارى ..
وكنت أشعر بالهدوء والراحة فى هذا المقهى لأنه يطل على النيل مباشرة ولأن واجهته بحرية ولأنه رغم جمال موقعة قليل الرواد فى النهار والليل ..
ورغم المشوار الطويل الذى أقطعه كل ليلة فى طريقى إليه فقد استرحت إليه وأحببته لأنه فى حى شعبى .. بعيد عن أمكنة العساكر الإنجليز الذين أخذوا يتكاثرون فى قلب العاصمة .. بعد هزيمتهم فى الصحراء ..
وكانوا منكسرين على طول الجبهة .. ويغطون إنكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان ..
وحاول أحد العساكر ذات ليلة خطف طربوشى .. ولو أننى أحمل نصلا حادا أتوماتيكيا معى دائما منذ بداية الظلام وأشهرته فى وجهه فذعر وتركنى لحدث ما لا تقدر عواقبه ..
وكانوا يسمعون المصريين يهتفون تقدم (يا روميل) فيزداد غيظهم وسعارهم ..
وكنت أجلس فى مواجهة الكوبرى وأرى فى كثير من الأحيان قوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصحراء تقودها السائقات الجميلات فى ملابس الحرب ..
وكان منظرهن يهز مشاعرى ويجعلنى أفكر فى الأنثى بإحساس شاب فى الخامسة والعشرين ..
واستراحت أعصابى فى المقهى .. واسترحت فيه كلية من شبح الأصلع الذى مزق ألياف لحمى وجعلنى أعيش فى رعب ..
وكانت حجة الوقف التى جئت بسببها إلى القاهرة قد أمكننا العثور عليها مطمورة بين أكداس الأوراق .. وقد جعلنى هذا أكثر سعادة .. فمشيت فى تلك الليلة على كوبرى « أبو العلاء » وكان القمر قد تم والهواء رخيا وحركة السيارات قد خفت .. والكون كله يوحى بالسكون وأن الناس قد ذهبوا إلى مضاجعهم ..
وفى وهج الأحلام بما تدره علينا حجة الوقف بعد العثور عليها مما جعلنى أتأنى فى السير لتتضح الصورة وتتشكل المعالم الذهبية .. سمعت وقع أقدام خفيفة خلفى .. أقدام رتيبة تقرع خشب الكوبرى فى وقع واحد لا تغيره .. ثم خفتت جدا وخيل إلىَّ من خفوتها أنها تبتعد عنى .. ولا تسير ورائى .. فلما تلفت لأتحقق من تصورى .. وجدت شبح رجل يتبعنى فى الظلام .. ولا يبتعد عنى كما قدرت ..
وتمهلت وأنا أدير رأسى لأستوضح ملامحه ، ولما وقع بصرى على صلعته .. وقف شعرى ، وانتابنى فزع لا أستطيع وصفه .. إنه الرجل بعينه خرج من أعماق الماء .. أو تسلل من وراء الكوبرى .. أو كان يتبعنى كظلى عند ما خرجت من المقهى .. لم أكن أدرى .. تسلط علىَّ غضب أرعش بدنى كله .. وجعلنى أفكر فى خنقه .. إجتاحنى غضب أسود ..
وعندما خرجت من طوار الكوبرى .. أعترضتنى قافلة من سيارات الجيش الإنجليزى .. فغاب الأصلع عن بصرى فى زحمة السيارات .. وبعد مرور القافلة لم أعثر له على أثر ..
***
وانتابتنى حالة من الرعب القاتل وأنا فى الفراش جعلت النوم يطير من أجفانى ..
وأخيرا وبعد تفكير طويل راوحت نفسى على أنه حالة من الفزع وتعب الأعصاب وأنه لا يوجد شىء أطلاقا فى حياتى وعملى يجعلان هذا الرجل يتبعنى ..
ولكن فى الصباح .. احتلت رأسى فكرة جديدة ورأيت أن أنفذها على الفور .. أبتعد كلية عن هذا الرجل وأترك له القاهرة ..
وأخذت قطار الظهر المتجه إلى الإسكندرية ..
ولما كنت لا أبغى من السفر التصييف ولا الإستحمام فى البحر .. فقد وقع اختيارى أن أنزل فى فندق صغير ( بالمنشية ) حيث المطاعم الشعبية الرخيصة وحيث يوجد مركز الثقل فى المدينة ..
وكنت أسهر أحيانا فى شارع ( البير ) فى غير ليالى الآحاد .. وهى الليالى التى يكثر فيها البحارة الإنجليز ويكثر مع وجودهم عراكهم وصخبهم .. وكانوا فى حالة فزع من الألمان ورعب مزق أعصابهم ..
ومهما يطل جلوسك لا تشعر بالملل فى هذا الشارع الجميل الفائض بالحيوية والحياة ..
ولهذا كنت ابتعد عنه متحسرا فى مساءى السبت والأحد ... وأقضيهما فى حانة صغيرة بشارع « أديب » وهو شارع أعور قليل الدكاكين ، وحانته أنيقة تنزل إليها بخمس درجات ولا يعرف طريقها الإنجليز ولا حتى المصيفون ..
وفى ليالى الغارات الشديدة كنا نعتبرها أأمن مخبأ لأنها فى جوف الأرض ..
وفى ليلة طيبة الهواء لمحت وأنا أشرب البيرة فتاة مصرية جميلة تجلس إلى مائدة وحدها فى ظل المصباح الجانبى ..
ولم أكن منذ وصولى الإسكندرية قد اتصلت بالنساء .. وجذبتنى الفتاة بعينيها العسليتين والرقة التى فيها ورشاقتها وجمال قوامها..
ودعوتها إلى مائدتى ..
وجاءت وشربنا واتفقنا بعد حوار قصير على أن نذهب إلى شقتها ..
وسرنا متلاصقين فى الشوارع الضيقة وكانت قيود الإضاءة بسبب الحرب تجعلنا نستريح أكثر للعتمة التى كانت عليها المدينة .. ولكن كلما لمحت بعض الإنجليز السكارى من بعيد يغنون وهم يترنحون فى الشارع كنت أتحسس النصل الأوتوماتيكى الذى فى جيبى .. ونبتعد عنهم ..
وكان بيتها فى حارة تتفرع من شارع ( سيزوستريت ) ولم أشعر وأنا أسير بجوارها بطول المشوار .. عندما لم نجد ( تاكسى ) ولا عربة ( حنطور ) فى تلك الساعة من الليل ..
وعندما درنا فى حارتها الضيقة المرصوفة بالبلاط وأصبحنا أمام الباب .. رأيت الرجل الأصلع بلحمة ودمه أمامى فجأة .. وسحقتنى طلعته ..
وفتحت فمى مدهوشا .. وارتعش بدنى كأنما وخز جسمى كله بالأبر ..
وكانت الفتاة قد تقدمتنى فى مدخل البيت فلم تلاحظ حالتى .. وتبعتها وأنا مصعوق ..
***
وكانت شقتها صغيرة وجميلة .. وشعرت بالهدوء قليلا عندما أغلقت وراءنا الباب .. ولكن فى حجرة النوم وجدت فى المرآة رأس الأصلع فسح عرقى .. فى اللحظة التى كانت هى فيها تخلع ملابسها ..
وعندما تمددت بجانبها .. كان سيل العرق لا يزال يتصبب ..
فمسحت على جبينى وقالت برقة :
ـ مالك .. ؟
ـ لا شىء ..
ـ شربت كثيرا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ جسمك بارد ..
ـ أبدا ..
ونظرت طويلا إلى عينى .. وقالت :
ـ هل تتصور أننى أخالط الإنجليز .. وتخاف من المرض .. ؟
ـ أبدا .. أنك حورية .. ولقد أشتهيتك كأجمل أنثى فى الوجود .. ولكن الأحسن أن أستريح الليلة .. وسأجىء إليك غدا ..
وارتديت ملابسى وقدمت لها جنيها أخذته بصعوبة ..
وسرت فى الشوارع وأنا شبه مجنون .. كنت فى ثورة عارمة .. فقد كان هذا الرجل المجنون السبب فى أن أشعر بالمهانة أمام أجمل أنثى ..
كانت عيناى تقدحان شررا .. وتبحثان عنه .. سرت فى الشوارع ومن حيث بدأت .. جئت ..
ولمحته فى شارع « النبى دانيال » .. يسير الهوينا .. هادئا .. كأنه ما فعل شيئا .. وتبعته ورأسى يغلى كالمحموم .. تبعته كظله .. وأنا أكتم وقع خطواتى .. ولم يكن فى الشارع سوانا .. ومال إلى شارع جانبى ودخل بيتا من أربعة طوابق .. بيتا قديما وسلالم متآكلة وكانت الظلمة فى المدخل وعلى السلم شديدة .. ومع ذلك استطعت أن أصعد وراءه .. وأدركت من وقع خطواته أنه يسكن فى الطابق الأخير ..
وأحسست به وهو يفتح الباب .. ورأيت أن أباغته قبل أن يخلع ملابسه أو يترك فتح الباب لغيره إن كان فى الشقة سواه .. فأسرعت وراءه وضغطت على الجرس .. وأول شىء طالعنى صلعته وأخذته مباغته بضربات حادة وتركت النصل فى جسده لم أنزعه .. وجريت إلى الشارع .. وكان السكون يخيم ..
***
وفى الصباح الباكر خرجت من باب الفندق .. وركبت الترام « الدائرى » وأنا مأخوذ تماما ..
كنت فاقد الشعور مذهولا .. وعلى بصرى غشاوة جعلتنى لا أميز معالم الطريق ..
ونزلت فى ( محرم بك ) لأمشى .. وجدت أن الحركة خير من السكون .. فمشيت فى الشوارع ومشيت .. ومن وراء سور عال .. لمحت وجوه أطفال فى داخل الفصل ومن نافذة الفصل الوحيدة .. رأيت مدرسا يضرب تلميذا صغيرا على أطراف أصابعة بسن المسطرة .. كانت الضربات متلاحقة وموجعة .. والتلميذ يصرخ ..
واشتغل رأسى فجأة .. ومضى شىء جعلنى أرجع إلى سن الطفولة ..
وتذكرت مدرس الرياضة الأصلع الذى كان يضربنى فى صباح الشتاء البارد على أطراف أصابعى بسن المسطرة .. والأصابع متجمدة من البرد .. فيكون الوجع رهيبا .. ينخلع له القلب ..
تذكرت مدرس الرياضة الأصلع وكيف كنت أبغضه إلى درجة الموت ولكنه أفلت منى طوال هذه السنين .. ووقع الرجل الآخر المسكين مكانه .. ضحية لعذاب الطفولة ..
وصرخت وظللت أصرخ فى قلب الشارع حتى تجمع حولى الناس وكونوا دائرة أخذت تضيق ولكن الوهج المتطاير من عينى جعلهم لا يقتربون أكثر ..
==============================
نشرت القصة فى مجلة " الهلال " عدد اكتوبر 1970 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
================================


















وقفة فى الضوء

دخل القطار محطة " أسيوط " متأخرا عن ميعاده نصف الساعة وأحس المسافرون الواقفون في انتظاره على الرصيف بالمرارة والغيظ ، لأن القطار يقوم من نفس المحطة ..
وزاد الحالة سوءا أن عرباته كلها كانت مظلمة ليس بها أية إضاءة على الإطلاق ..
فاندفع الركاب إلى جوف العربات وهم يتخبطون فى الظلمة ويهرولون حاملين حقائبهم وأمتعتهم وعلى وجوهم السعار كأن القطار سيقلهم إلى الجنة ..
وأستطاع " حافظ " أن يجد مكانا فى الدرجة الثانية دون كبير مشقة لأنه كان خفيفا ولا يحمل متاعا ، فقد اعتزم منذ بارح القاهرة فى قطار الصباح أن يعود إليها فى نفس اليوم ..
وسافر ليسلم ويعزى يؤدى الواجبين معا فى جولة واحدة .. يسلم على أهله فى المدينة لأنه سيهاجر ويعزى فى قريب له مات منذ أسبوع .. يعزى وهو لا يحمل أية عاطفة نحو الميت ولا المدينة التى مات فيها ..
وكان بطبعه يكره الجنائز وكل ما يتصل بها من قريب أو بعيد ، ويتمنى على الله أن تكون نهاية حياته فى جوف المحيط .. حتى لا يتعب أحدا فى دفنه .. وتحت تأثير هذه الأمنية سيركب البحر ..
وكره بسبب الجنائز مدينة " أسيوط " لأن فى جبلها مدافنهم ..
***
جلس فى مكان ملاصق للنافذة وهو لا يتبين فى العتمة سحن الركاب الجالسين معه فى نفس الديوان ..
وكانت المحطة نفسها مظلمة وكئيبة والوجوه تعكس أثر الهرولة وسوء النظام ..
وشعر بالكآبة التى يحس بها التلميذ البليد فى ساعة الامتحان وبالقرف من القذارة التى طالعته من كل ركن فى الديوان رغم الظلام .. فقد لمست أصابعه العارية الغبار فوق الجلد الممزق كأنه مفرش رمادى محكم النسج ..
وزاده غما أن القطار مع تأخره عن ميعاده ظل واقفا فى المحطة ..
وكان يود أن ينهض ليبحث عن الفتاة ولكنه خشى لو فعل هذا أن يفقد مكانه .. فظل فى مقعده يفكر فى كيفية العثور عليها وما رآها من قبل ولا عرف حتى اسمها ولا وصفها ..
ونعت قريبه بالحماقة ..
- بنت خالة الست منيرة راكبة معك نفس القطر .. يا حافظ .. أعمل معروف وشوفها .. لأنها مسافرة وحدها فى هذا الظلام ..
قال له قريبه هذا فى اللحظة التى تحرك فيها القطار .. وفى ظنه أن حافظ رآها من قبل ويعرفها .. ثم فصل بينهما الظلام والجمهور المودع على الرصيف .. وبقى حافظ فى حيرة منذ سمع هذا .. وكان يقدر أن تضئ بعض المصابيح فى داخل القطار بعد تحركه كما يحدث أحيانا .. ولكن الظلام ظل شاملا حتى بعد أن ترك القطار المدينة ..
وظل ذهن حافظ يشتغل بالفتاة .. وأخيرا رأى أن يستعين بالكمسارى عندما يفتش على التذاكر ..
وعندما فتح الكمسارى باب الديوان وأطل والبطارية فى يده .. بنظارته السميكة وبدلته الزرقاء المحشوة بالدفاتر والأوراق .. حدثه برغبته ..
فسأله :
ـ هى راكبة درجة أولى .. أو ثانية ..؟
   ـ ثانية .. غالبا ..
   ـ طيب تفضل معى ..
وخرج وراءه وهو يشكره .. بعد أن وجد فيه طيبة جعلته ينسى الهوان الذى لقيه فى القطار ..
وأحس بتيار الهواء الشديد وهو يتحرك بحذر فى الطرقة القائمة لأن الزجاج كان محطما فى بعض النوافذ ..
وزادت قوة الضغط الهوائى لسرعة القطار المنطلق كالسهم فأمسك بخشب النافذة حتى لا يسقط وأحس بجذب قوى إلى الخلف .. فلما تلفت وراءه وجد ظهر العربة مكشوفا ومتصلا بالقضبان مباشرة ..
وخشى أن تدفعه الريح إلى هناك فيسقط .. وشعر بالرعشة تسرى فى بدنه وبالخدر والدوار .. ثم تماسك وتقدم إلى الأمام ليلحق بالكمسارى الذى كان يتحرك بسهولة رغم اهتزاز العربة ودفع الريح .. ولما عثر عليه وجده قد شغل براكب قفز إلى القطار من غير تذكرة وأمسك به من تلابيبه قبل أن يركب على السطح .. ووجد حافظ أن المسألة ستطول فترك الكمسارى مع مطارده وتقدم وحده يبحث عن الفتاة ..
وأخذ فى غبش الليل ودوى القطار واهتزازه يقف على باب كل ديوان ويسأل عنها .. وكانت الوجوه تتلقى السؤال بالصمت والاستهجان ، ومع ذلك لم يتراجع وظل يسأل ليريح نفسه من تأنيب الضمير .. فقد كلف بعمل إنسانى يراه فى الذروة بعد أن تبين حالة القطار وظلامه والمخاطر التى يمكن أن تحدث فيه لفتاة وحيدة ..
وواصل البحث فى كل العربات وحتى عربة الأكل فلم يعثر على الفتاة ..
واثناء مرور القطار على محطة مضيئة شاهد حافظ على النور الخارجى الذى نفذ إلى داخل العربات فتاة جالسة فى الركن الأيمن من الكنبة ونظرها إلى الشباك فسر جدا ، وفتح باب الديوان ودخل على الفور .. واتخذ له مكانا فى الركن الخالى ..
وتبين بصعوبة بعد أن انزاح الضوء ودخل القطار فى جوف العتمة ملامح ثلاثة رجال وسيدة والفتاة وأصبح هو سادسهم ..
***
كان أمام القطار حوالى ساعة على محطة " المنيا " وهى المحطة الوحيدة التى يقف فيها بعد أسيوط ، فجلس " حافظ " صامتا يتفرس فى الوجوه التى معه ..
وأراحه الظلام الذى شمل المكان وقطع صلته بالركاب .. ولكن مجرد أن لاح نور ضئيل فى سقف العربة أخذت ثلاثة وجوه جامدة تحدق فى وجهه بشراسة كأنه دخيل عليهم وليس له الحق فى الركوب معهم .. وكانوا من سن واحدة يرتدون بدلات بدت فى العتمة متقاربة فى اللون وعليها جميعا الغبار وظل السفر وخنقوا المكان برائحة السجائر المشتعلة من الأفواه الثلاثة وبجانب هذه الوجوه الثلاثة الشرسة لاح وجهان نسويان ينظران إليه فى حنان ووداعة .. لأنه كان أصغر الموجودين سنا وفى وجهه وسامة وهو الوحيد الذى لا يدخن ..
وجه سيدة مسنة يضم جسمها النحيل معطف أسمر وقد غطت شعرها وجيدها بعناية من البرد والتراب .. ووجه فتاة ناضرة فوق العشرين على تقاطيعها الجميلة مسحة شحوب خفيفة ترف على الخدين كأنها لمسة من الأرجوان .. أو رعشة من دم الحياة ..
وبدت العينان السوداوان ساكنتين جدا وفيهما بريق عذب يلوح فى الظلمة ثم يختفى كلما تكسرت ظلال الهدب على الخد الناعس .. فيكون أجمل ما تقع عليه العين من وجوه النساء ..
ونظرت الفتاة إلى حافظ نظرة خفيفة أيقظت نفسها الحالمة ثم عادت لحالها وسكون جوارحها محولة بصرها إلى النافذة وما كانت ترى فى العتمة المطبقة شيئا يلوح فى الأفق ..
***
وفجأة أخذ المسافر الجالس أمام " حافظ " يوجه إليه أسئلة مباشرة ضايقته وأربدت لها سحنته ، سأله عن اسمه وأهله وصناعته وبلده .. أسئلة سخيفة ولكنه تحملها بصبر وأجاب عليها باقتضاب ..
وانطلق راكب آخر يتحدث عن نفسه وعمله فى استعلاء كأنه محافظ المدينة .. بصوت عال يمزق طبلة الأذن ويثير الأعصاب ..
وظلت السيدة والفتاة فى صمت .. وعلى وجهيهما ترف ابتسامة خفيفة ..
وغاص حافظ فى مقعده وعلى وجهه الامتعاض وكان وجه الفتاة الجالسة فى الطرف الآخر هو الذى يشده إلى مكانه ويبقيه فيه ..
وهدأ القطار من سرعته وهو يدخل إحدى المحطات التى لا يقف عليها .. فسمعوا صوت المدافع .. فأنصتوا إليها فى وجوم وفتح هذا باب الحديث عن الحرب مع اسرائيل .. وتحدثوا عن غارة منقباد ثم غارة أبى زعبل .. وكانت الغارتان قد أثارتا الغضب فى النفوس ووهجهما لا يزال يشتعل فى الوجوه .. فأخذوا يلعنون اليهود .. ويصفونهم بالجبن والنذالة ..
وقالت السيدة المسنة للرجال كالمعاتبة بعد أن أحست بأن مجرد الشتائم لا ترضيها :
- أنتم شباب .. قاتوا .. إن الشتائم لا تصيب هدفا .. ولا تغسل عارا .. قاتلوا .. وقاتلوا ..
وسرت الفتاة من حماسها وروحها العالية .. وأحس الرجال بوقع كلامها فى نفوسهم وخيم الظلام على العربة مرة أخرى فصمتوا جميعا ..
وظل الظلام فى الخارج شديدا وومض المصابيح فى المدن والقرى القريبة والبعيدة يبدو لعين المسافر على البعد كأنه نجوم خافتة تتهاوى من السماء ..
وبدت المروج والمزارع والأشجار العالية تختلط فى عين المشاهد لشدة العتمة .. وترعة الإبراهيمية تبدو على يسار المسافر بيضاء فى الظلمة وساكنة كأنه نثر على صفحتها تراب من الرصاص ..
والجبلان الشرقى والغربى يلوحان كظلين أسودين جهمين لا معالم لهما من خلال السواد المتراكب ..
***
وفى محطة " المنيا " نزل راكبان من الديوان .. السيدة المسنة ورجل .. وشعر بقية الركاب بالراحة لأن المحطة فيها حياة وحركة ..
وقرع بائع سميط النافذة فابتاع منه " حافظ " سميطا وبيضا ..
وقدم بعضه للفتاة والمسافر الوحيد الذى بقى معهما .. فشكرته الفتاة وقالت له بعذوبة :
ـ إن عشائى على الرف .. وأنا لا أشعر بالجوع الآن ..
    أما المسافر فأظهر امتنانه ..
وأخذ حافظ يأكل قبل أن يتحرك القطار .. ثم نهض ليشرب .. ولاحظ وهو فى الطرقة أن الديوان المخصص للسيدات كان خاليا تماما .. فخشى أن تنهض الفتاة وتراه خاليا فتختاره وتتركه هو للفراغ والوحشة .. أحس بأن وجودها أراحه ..
وحدث نفسه بأن يعرفها على التو بشخصه وكيف تعب فى البحث عنها حتى وجدها أخيرا لتبقى فى مجلسها ، ولكنه عندما تحرك القطار ورآها ظلت فى مكانها لا تبرحه تبدد خوفه .. ولم يحدثها بشيء ورأى أن يرجئ تقديم نفسه إلى أن يصلا محطة القاهرة .. فيكون ذلك أدعى إلى إكباره فى نظرها ..
وأصبحت حركة القطار السريعة ودويه على القضبان وصوت الريح يشعره بالحياة أكثر .. وبالقوة التى يتطلبها فى كل شيء ..
وود لو يحدث الفتاة عن رغباته وأحلام الصبا التى تدور فى رأسه ، ويحدثها عن أمه وأخته .. وعمله وكرهه له .. ولماذا فكر فى السفر .. ثم استقر رأيه على الهجرة ليوسع من دائرة رزقه .. يقول لها لماذا فعل هذا كله .. ولكنه ظل صامتا ..
***
وفى محطة " بنى سويف " نزل الراكب الآخر .. فشعر بفرحة كبرى .. وود لو يغلق باب الديوان بالمفتاح حتى لا يدخل عليهما أحد ..
وكان الباب بعد خروج الراكب نصف موارب فأغلقه .. وأحس بعينى الفتاة تتبعانه فى هذه الحركة .. وخشى أن تتصور شيئا .. فقال وعيناه تنطقان بالصدق :
- أخشى أن يدخل علينا راكب فيخنقنا بدخان السجائر .. ولقد شاهدت بنفسك من قبل كيف فعل بنا الدخان ..
وردت بعذوبة :
ـ عندك حق ..
اعترتها الرجفة التى تساور كل عذراء ترى نفسها تركت وحيدة مع رجل غريب ولكن ملامحه الساكنة وصوته المهذب جعلاها تشعر بالإطمئنان .. وجاء راكب بعد أن تحرك القطار .. وفتح الباب ونظر فى الداخل لحظات بعينى الصقر .. ثم أغلقه بعنف ومضى لسبيله ..
وكان وجه " حافظ " فى هذه اللحظة يشتعل فى الظلمة ..
وقال يحدث نفسه بعد أن انصرف الرجل ..
" لعله تصورنا زوجين أو ... وتركنا لننعم بهذه الخلوة .."
وبعد أن ترك القطار مشارف المدينة .. ورأى نفسه وحيدا معها وجد الفرصة سانحة ليعرفها بشخصه ..
فسألها :
ـ الآنسة .. قريبة للست نعيمة التى تسكن فى الحمراء بأسيوط ..؟
ـ أبدا .. ليست لى قريبة بهذا الإسم .. وأنا من القاهرة ..
ـ آسف .. لقد أتعبتنى فى الواقع ..
فرفعت هدبها فى استغراب ..
فأخذ يوضح لها الأمر وكيف أنه كلف بصحبة آنسة مثلها .. وبحث عنها فى كل عربات القطار .. وأخيرا تصور أنه عثر عليها عندما رآها هى فى هذا الديوان ، وكف عن البحث ..
وضحكت وقالت :
- والآن يمكنك أن تستأنف البحث .. بعد أن عرفت الحقيقة .. وأمامك ساعة ونصف على القاهرة ..
- بحثت فى كل مكان .. وأعتقد أنها نزلت من القطار .. قبل أن يتحرك خوفا من الظلام أو نزلت فى محطة المنيا لأن لها أقرباء هناك ..
- لقد أخافنى الظلام حقا .. ولو أنى وجدت هذه السيدة التى شاهدتها .. ما ركبت ..
- والآنسة .. نازلة فى الجيزة ..؟
- لا .. فى محطة مصر .. وأنت ..؟
- فى محطة مصر .. مثلك .. إلى حين ..
ـ وبعد ذلك إسكندرية ..؟
ـ فى الواقع أنا مسافر على طول ..!
ورفعت وجهها مستفهمة ..
وانطلق يحدثها عن عمله فى القاهرة وعن والدته العجوز وأخته الطالبة فى الجامعة والسبب الذى من أجله قرر أن يهاجر ..
فسألته برقة :
ـ ومتى السفر ..؟
ـ بعد أسبوعين على الأكثر .. فقد أتممت كل الإجراءات ..
ـ مصحوبا بالسلامة ..
ـ شكرا .. أى طلبات من كندا ..؟
ـ بعد أن تصل بالسلامة ..
     وضحكت ..
وأخذت تحدثه عن نفسها .. فهى طالبة فى مدرسة الألسن وفى السنة النهائية وتقيم مع والدتها فى الحلمية الجديدة ..
وكانت فى أسيوط تباشر مصلحة لأمها لأن المرض أقعدها عن السفر .. وهى وحيدتها ..
وشعر بالرقة لحالها والعطف الشديد عليها ..
وكان صوتها يشوبه الحزن ومؤثرا وهى تروى كيف أنها سافرت مرتين فى مدى شهر واحد لتتخلص من ربع بيت قديم ورثته أمها .. فلم توفق فى المرتين لجشع المشترى وعادت بالخيبة والمرارة .. وأبدى أسفه لسوء معاملة بعض الناس وطمعهم .. وقال لها بأنه فكر فى الهجرة بعد شعوره بأنه مظلوم ولم يأخذ حقه فى الحياة ..
فقالت له وقد غيرت من نبرة صوتها :
- ولكن كيف تهاجر ونحن فى حرب مع إسرائيل .. ومن الذى سيدافع عن أمك وأختك ..؟
- لست مجندا لقد تجاوزت سن التجنيد ..
- ولكن هذا بيتك .. عرضك وشرفك .. وطنك الصغير ، فكيف تتركه للآخرين ..؟
- لهما رب يحميهما ..
- الله أوجدك لهما .. وجعلك سببا .. فكيف تتركهما الآن وتهرب .. أنت هارب ..
- لقد فكرت فى الهجرة قبل الحرب ..
- ولكننا الآن فى حرب ..
ـ فأنت هارب من المعركة .. هارب ..
وأحمر وجهها وتغيرت نبرة صوتها .. ولما رأته صامتا .. وخجلا .. ضحكت لتخفف من وقع الأمر على نفسه ..
وقال ليحول مجرى الحديث :
ـ عندما خرجت إلى الطرقة .. وجدت ديوان الحريم خاليا .. ليس فيه سيدة واحدة ..
ـ أعرف هذا منذ ركبت .. وخفت أن أجلس فيه وحدى ..
ـ حقا .. لقد كان هذا من حظى لأراك ..
ـ شكرا ..
وخيم الصمت وكان عقله يفكر فى أمه وأخته وفيما قالته له الفتاة .. لقد سمع هذا الكلام من آخرين من قبل .. كثير من أهله وصحبه ولكن قولها الآن هزه .. حرك وجدانه .. ألهب مشاعره الخامدة .. عاد إلى وطنيته الصافية وحماسه وهو طالب لا غرض له ولا مطمع قبل أن يلوثه العمل فى الحياة بالمرارة والاحساس بالظلم ..
ونظر إليها مبتسما :
- بقى حوالى ساعة ونصف على القاهرة فهل تحبين النوم .. وسأخرج لتأخذى راحتك .. وأقف على الباب حارسا طوال المسافة الباقية ..
فقالت برقة :
-                              لو تركتنى فسأموت من الخوف .. إن الله أوجدك لى ..
فحدق فى جمالها كله ولم ينبس ..
وأحسا بالقطار يهدئ من سرعته ثم توقف تماما .. وأخفتت كل مصابيحه .. وطال الوقوف .. وتصور الركاب أنها غارة فجلسوا صامتين ..
ثم علموا أن قطار بضاعة انقلبت احدى عرباته فعطل الخط ..
وعليهم أن ينزلوا من هذا القطار ليأخذوا قطاراً آخر أعد لهم ..
وشرع الركاب ينزلون من العربات إلى الشريط .. وأنزل حافظ حقيبة الفتاة من فوق الرف وأمسكها لها لأنه لم يكن معه متاع ..
ونهضت .. وطلب فى أدب أن تتقدم أمامه .. ولكنها ظلت واقفة .. وقالت له بصوت منكسر .. والحمرة تعلو خديها :
ـ تفضل .. أنت ..
ـ لا .. تفضلى ..
والح .. وظلت واقفة مسمرة وقد التهبت وجنتاها .. وتحت الحاحه الشديد .. تحركت ومشت أمامه ..
وذاب قلبه من العطف .. فقد كانت عرجاء .. وعرجها واضحا .. وكانت تود أن تخفيه عنه .. وود فى هذه اللحظة أن يحملها بين ذراعيه القويتين ويطير بها بين السحاب ..
وتخضلت عيناه بالدمع وحمد الله .. لأن الظلام أخفى دمعه .. وكانت تود أن تعرف احساسه فى هذه الساعة وهل تحول بعد أن تبين الموقف كله .. وشاهدت فى عينيه الصامتتين الحنان والحب ..
قال لها بعينيه :
لا تحزنى لأنك جئت إلى الدنيا هكذا .. ستجدين منى العوض ..
وتولدت فى رأسه فى هذه الساعة شرارة أخذت تومض وأيقظت نفسه ..
***
وعندما خرجا إلى المحطة الصغيرة ووقفا فى انتظار القطار الآخر رأته قد وضع الحقيبة جانبا ..
وأخرج من جيبه أوراقا وأخذ يمزقها .. تحول وهى واقفة بجانبه إلى شيء صلد وممتلئ قوة ..
وفهمت كل شيء دون أن تنبس ..
وأمسكت بيده وضغطت عليها بعنف وهو شاعر بالحرارة والقوة والحب .. الأشياء التى كان يبحث عنها ويطلبها لنفسه ..
==========================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 5984 بتاريخ 14/5/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
=========================
























الإعـــلان


 
فى ساعة الغروب .. وفى جو لافح بالحرارة الشديدة .. سارت فتاة رشيقة بديعة القوام فى شارع " طلعت حرب " واختلطت بغيرها من النساء اللواتى كن يتبخترن فى الشارع الأنيق غير عابئات بالجو يستعرضن واجهات الحوانيت ويتسوقن كعادتهن وهن فى أجمل أزياء الصيف وأحدثها ..
ولم تكن الفتاة قد غادرت بيتها لتتسوق مثلهن بل كانت تطلب شيئا آخر شغل بالها فى الأيام الأخيرة .. فأمسكت بيدها ورقة صغيرة قطعتها من إحدى الصحف وأخذت تنظر فيها من حين إلى حين لتتثبت من العنوان المدون بالورقة ..
وظلت وهى سائرة تقرأ أرقام البيوت دون أن تسأل أحدا .. فلم يكن من طبعها سؤال الناس الغرباء .. ووجدت صعوبة وهى تفعل ذلك وحدها لأنها لم تعتد التردد على هذا الحى فقد كان جديدا عليها كما أن كثيرا من البيوت لم تكن تحمل أرقاما على الإطلاق ..
وأخيرا عثرت على البيت بعد جهد ولم تجد البواب فى المدخل وأحست " سميرة " برهبة وهى داخلة وحدها إلى هذا المكان .. كانت العمارة من العمارات القديمة الكبيرة .. التى تبدو للناظر لأول وهلة أنها خاليه من السكان .. ووجدت المصعد فى نهاية المدخل ولكنها لم تستعمله لأنها ألفته من النوع القديم جدا وخشيت أن يتعطل بها وهى صاعدة وحدها فيعلقها بين السماء والأرض ..
وصعدت الدرجات على مهل فى ضوء السلم الخافت وهى تحدق فى أرقام الشقق حتى وقفت أمام باب الشقة رقم 36 ..
ووجدت باب الشقة مفتوحا ولافتة على الباب تحمل نفس الكلمات التى قرأتها فى الجريدة مكتوبة بيد خطاط ماهر ..
وكانت الإضاءة فى الردهة أقوى من الإضاءة التى تركتها على السلم .. فدخلت وجلة تتسحب فى دائرة الضوء .. وقد طالعها السكون الموحش ..
وتقدمت خطوتين ولم تسمع خلالهما حسا بالداخل ولا حركة تدل على وجود إنسان .. فوقفت فى مكانها ساكنة تتلفت فى كل الاتجاهات وهى تتحدث بصوت مسموع عل أحدا يجيب على صوتها .. ثم تحركت إلى الأمام بتؤدة فوقع بصرها على شاب نحيل يجلس هناك فى الركن منحنيا على مكتب .. واستقبلها بابتسامة باهتة دون أن يفتح فمه وهو يرفع رأسه الصغير عن أوراق أمامه وحدق فى وجهها لحظات .. أبدت له فى خلالها بصوت خجول متكسر غرضها من المجئ وهى تدفع إليه الإعلان المنشور فى الجريدة ، فقال لها بسرعة دون أن ينظر الى الورقة ..
   ـ تفضلى استريحى ..
ونكس رأسه مرة أخرى وعاد يدون أشياء فى أوراق أمامه ..
وجلست هى ساكنة تدير عينيها فيما حولها .. فتاهت عيناها فى صور كثيرة ملصقة على الجدران لمجموعة من الفنانين والفنانات مصريين وأجانب .. ولافتات كبيرة بكل الالوان .. وساعة على الحائط فى مواجهتها تماما كانت تدق دقات رتيبة أراحت أعصابها ..
وحسبته غفل عنها فودت لو تذكره بوجودها ولكنها وجدته ينهض عن مقعده وغاب فى الداخل دقيقة .. ثم رجع وهو يقول لها بصوته الخافت ..
ـ تفضلى .. عند الأستاذ ..
ومشت وراءه حتى وقف أمام باب غرفة واسعة فخمة وفتح لها الباب وتركها تدخل وحدها فانسابت إلى الداخل .. وهى خجلى تحس برعشة فى ساقيها .. ووجدت فى الداخل رجلا فى حلة رمادية كاملة وفى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره يجلس إلى مكتب كبير فى وسط الحجرة ويبدو متأنقا للغاية .. وعلى وجهه سمات الوجاهة ..
ولما اقتربت منه " سميرة " نهض ليحييها وبدا لها متوسط الطول رشيق القوام ..
وجلست قيد ذراعين منه .. منكمشة .. ونظرها إلى الأرض .. وتأملها لحظات وهو ينفث دخان سيجارته وشعر بفرحة غامرة .. فقد جاء له الإعلان بشيء مثير جديد .. فلم يسبق أن شاهد فتاة تدخل عليه المكتب بمثل هذا الجمال ..
وفكر على التو فى أن يكون حريصا معها ومحاذرا حتى لا تفلت من يده بعد أن جاءت بقدميها تسعى إليه ..
وأخذت الفتاة الجديدة التى تخلو حياتها من كل التجارب تنظر إليه بوجه العذراء وتحاول أن تستشف من ملامحه ما يدل على بعض صفاته الخلقية .. حاولت بكل امكانياتها الصغيرة .. وكل ما مر على حياتها من صور الرجال " أمثاله " فى الترام ، والأتوبيس والشارع .. أن تجد فى وجهه أى تعبير يجعلها تعرف بعض صفاته فأخفقت .. ووجدت وجها صامتا مغرقا فى الصمت وجها ممسوحا .. ولكنه فى الجملة – كما ظهر لها – يبدو طيبا وفيه وداعة ..
ولم تتعب عقلها فى البحث كما لم تكن لها الخبرة التى تؤهلها لأن تعرف أكثر من ذلك ..
وتحدث معها عن أشياء عامة وسألها إن كانت قد وجدت صعوبة فى العثور على المكتب .. وضغط على الجرس مرتين .. فدخل عليه الشاب الذى رأته فى الردهة وبدا لها هذا لما اقترب منها جدا .. قصيرا أكثر من اللازم .. ومتقصف ألواح الصدر .. ويبدو ذليلا أمام الأستاذ كلما دخل عليه كأنه يسوقه إلى المشنقة ..
وحدثه الأستاذ عن أشياء تتعلق بالعمل ثم صرفه ..
ولأن الجو كان مقبضا وحارا جدا فقد أخذ الأستاذ يفعل أشياء صغيرة من أجل " سميرة " سرتها كثيرا وجعلتها تطمئن إليه ..
فقد حرك المروحة فى اتجاهها وجعلها تجلس على كرسى ذى حشية وعندما رن التليفون الموضوع أمامه رفع السماعة واختصر الحديث مع المتكلم حتى لا يجعلها تتضايق وتمل ..
وأخيرا سألها بذوق وكياسة إن كانت تتضايق من السجائر التى يدخنها ..
فردت عليه بانشراح وقد تأثرت من ذوقه ..
ـ أبدا .. فالناس يدخنون فى كل مكان ..
وفكر فى أن يطلب زجاجة عصير مثلجة لأن الجو كان يزداد فى كل لحظة سخونة ، ولكنه رأى أن يعدل عن ذلك حتى لا يلاحظ موظف المكتب أنه يخص هذه الفتاة دون غيرها بهذه الرعاية اذ ليس من عاداته أن يقدم أية تحية للعملاء ..
***
وظل يحدثها فى رقة وحنان حتى أدخل السكينة فى قلبها .. وأحست بعد ربع الساعة من الجلوس فى حضرة هذا الرجل بأنها مستريحة إليه .. وإن كان السكون المخيم على الشقة وكونها داخلية ومنقطعة كلية عن الحركة فى الطريق .. جعلها تحس فى فترات متقطعة بما تشعر به كل عذراء وهى وحيدة فى مكان لم تطرقه من قبل ..
واستفاقت على صوته وهى سابحة فى تيه من الخواطر ..
ـ أتكتبين على الآلة الكاتبة ..؟
  ـ أبدا..
   ـ أنا نفسى ما كنت اختار لك هذا العمل .. مع أن لدينا طلبات كثيرة له .. لأنه متعب .. والمشتغلة فيه تدور فى حلقة ضيقة وأنا أود أن أجعل منك شيئا كبيرا ..
ـ متشكرة جدا ..
 ـ أجل هذا هو غرضى فى الواقع .. فأنت لطيفة وتبدين من أسرة طيبة .. ولهذا السبب فأنا أستبعد العمل فى السينما اطلاقا لأنى لا أريد لك هذا المنزلق ..
وغير من نبرات صوته ثم استطرد ..
ـ وقد أخترت لك بعد إمعان الفكر وتقليبه على كل الوجوه .. مهنة سهلة وفى الوقت نفسه مريحة ..
فحدقت فى وجهه مسرورة وكان يبتسم ويفيض بشرا ..
ـ أتعرفينها ..؟
ـ وكيف أعرف ..؟
 ـ مهنة جميلة .. تعتمد على يديك .. وقد تأملتهما طويلا وأنت جالسة .. فوجدتك تصلحين تماما.. لهذه المهنة .. ستبرعين فيها .. مدلكة ..
ـ مدلكة ..؟
    سألت باستغراب وقد رفعت حاجبيها ..
 ـ أجل .. وهى مهنة جميلة وراقية وستتعلمينها على يد سيدة أجنبية عندها أعلى الشهادات من معاهد باريس .. وتستغرق الدروس ثلاثة شهور .. ولن نكلفك مليما سندفع كل المصاريف ..
ـ وأين أعمل ..؟
ـ لك الحق فى هذا السؤال ..
 ـ عندنا أناس محترمون جدا .. من المرضى الكهول .. ومعظمهم من الأثرياء .. وهو يطلبون المدلكة .. وسنختار لك أحسن هؤلاء جميعا ، وستذهبين إليه مرة واحدة فى الأسبوع ، وسيعطيك فى كل مرة خمسة جنيهات ..
ـ خمسة جنيهات ..
أجل يعنى عشرين جنيها فى الشهر .. وقد يتضاعف الأجر بعد شهور قليلة فبعضهم يدفع عشرة جنيهات فى المرة ..
ـ واذا شفى المريض ..؟
     وضحك الأستاذ ..
ـ إن هؤلاء لا يشفون أبدا .. مرضهم أزلى ..
     وسألها وهو يحرك كرسيه إلى الخلف ..
ـ وأين تقيمين ..؟
ـ فى الحلمية الجديدة ..
 ـ عال .. ستركبين مواصلة واحدة إلى المدام المدرسة .. ولك أن تختارى الوقت الذى يناسبك فى الصباح أو بعد الظهر ..
 ـ أفضل بعد الظهر لأنى أساعد والدتى صباحا فى عمل البيت وذهاب أخوتى إلى المدرسة فهى تشكو مرضا منذ سنة ..
ـ سلامتها .. والسيد الوالد ..؟
ـ متوفى ، ولنا معاش ضئيل .. كان والدى موظفا فى الدفترخانة بالقلعة ..
 ـ أعرف هذا ، مئات الحالات التى تعصر القلوب تمر علينا .. وأحب أن أعرف هل اشتغلت قبل ذلك ..؟
 ـ اشتغلت مرة واحدة فى حياتى عند تاجر فى " السيدة " ذهب بى قريب إليه .. ولكنه أفلس بعد ثمانية شهور وأغلق الدكان .. بعد أن صرف كل ما عنده .. لم تكن صنعته التجارة ، كان موظفا فى الحكومة .. ولم يكن يعرف شيئا فى التجارة على الإطلاق ..
وسكتت قليلا ثم استتلت ، وقد أدرك أن الكلمات أراحتها من أشياء كثيرة كانت تعتمل فى صدرها ..
 ـ وقالت لى والدتى يا بنتى لقد جربت العمل فى الخارج ولم يصاحبك التوفيق .. فلا داعى للتعب ويكفينا معاش والدك .. ولكنى لم أقبل هذا .. وعلى الأخص بعد أن نزل بها المرض لابد أن أساعد الأسرة وأخذت أتابع الاعلانات فى الصحف حتى وجدت إعلانكم فسررت جدا وحضرت على التو ..
 ـ تفكيرك سليم .. وسأهيىء لك الفرصة للعمل فى الحال .. ولن أتقاضى منك الأجر الذى نأخذه من الأخرين ..
وأشعل سيجارة أخرى وهو يتفرس من جانب فى وجهها الصبيح وكل تقاطيع جسمها الجميلة .. انها تصلح لوحة لرسام .. أو تحفة رائعة لمثال .. فكيف يغطى الفقر كل هذا ويغمره بالتراب ..
ولم يكن من عادته أن يفعل شيئا خارجا مع زبوناته فى المكتب لا فى اللقاء الأول ولا الثانى ولا الثالث .. فقد كان حريصا جدا على أن يظل المكتب مفتوحا ليعمل .. ولكنه فى حضرة " سميرة " أحس برعشة ودارت فى رأسه خواطر لم يستطع دفعها ولا التخلص من أسارها ووجد نفسه مدفوعا بقوة الجذب نحوها ، قوة هائلة كقوة الإعصار ..
ولما سألته بصوت ناعم ..
ـ وهل الثلاثة شهور كافية لتعلم هذه المهنة ..
 ـ كافية جدا .. وهلى تتصورين أنها صعبة .. إنها سهلة جدا .. والمدرسة أستاذة .. وسأريك الآن ..
كانت تتصور أنه سيشرح لها شيئا على الورق .. عندما ترك مكانه .. وتقدم نحوها ولم تحس بحركته وهو يضع يديه على كتفها .. وقال بصوت لم تسمع كل مقاطعه :
ـ إنها عملية بسيطة .. وتبدأ بتحريك اليدين هكذا .. هكذا ..
وأخذ يدلك لها برقة بالغة ، وبيد خبير عنقها وجيدها .. حتى أغمضت عينيها وحبست أنفاسها وأنتابها الفزع والحذر معا فشلت جوارحها كلها ولم تستطع بصوتها ولا حركة من جسمها أن تعترض .. كانت تود أن تصيح بأعلى صوتها وتجرى إلى الخارج ولكنها لم تستطع .. شلت تماما ..
تمادى هو فى حركة يديه لما رأى سكونها وتخشبها ..
***
وفى ساعة غير متوقعة للجو الذى أحاطه السكون والهدوء من كل جانب .. حدث شيء رهيب يخرج عن تقدير كل انسان ..
فقد سمع صرخة حادة آتية من الخارج ..
صرخة مفزعة كتلك التى تنطلق من أفواه النساء فى ساعة إخراج الميت .. أو فى ساعة اليأس أو الرعب أو الجنون ..
ودخل عليه فى أثرها الموظف الذى عنده وهو يدفع الباب بعنف ويصيح :
ـ واحدة ست سقط بها الأسانسير فى البير ..
ونظر إليه الأستاذ لحظة وهو لا يدرى أيصفعه أم يركله بقدمه .. ثم صاح فيه وهو يتميز من الغيظ :
ـ وهل أنا إسعاف يا حيوان .. أو مطافئ .. أغرب عن وجهى .. انت مطرود ..
ولم يشعر الاثنان فى حمى الغضب .. بالفتاة وهى تنساب مسرعة إلى الخارج ..
======================== 
نشرت القصة فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
========================



رحلة إلى بحر الزمرد

أحب السفر حبى للحياة ، ومنذ شببت عن الطوق وأنا أرغب فى السفر إلى الخارج وأفكر فيه دوما ، ولكن كيف السبيل إليه والفقر يعصرنى ويجعلنى أدور كالساقية فى مكان واحد ، فكيف أتحرك إلى الآفاق البعيدة ، وكيف أركب البحار ..
فى أول عهدى بالحياة اشتغلت فى أحد البنوك بالقاهرة بمرتب بسيط لا يتجاوز ثمانية جنيهات فى الشهر تضيع كلها على طعامى ومسكنى ..
ولأنى وحيد فى المدينة الكبيرة اخترت لسكنى الغرف المفروشة فهى أوفق كثيرا لحالة شاب أعزب لا يريد أن يؤثث بيتا ولو بأقل التكاليف .. كما أن الغرف المفروشة كانت موجودة بكثرة فى قلب العاصمة قريبا من مكان عملى وفى حى عابدين وفى حى قصر النيل على الأخص حيث يكثر الإفرنج ..
وكنت كثير التنقل بين هذه الغرف ، لم أمكث فى واحدة منها أكثر من ثلاثة أشهر لحالة نفسية .. أو مرضية .. أو لرغبة شاب فى العشرين من عمره قادم على التو من الريف ويحب أن يزيد من حصيلة تجاربه من الحياة .. والتطلع دوما إلى الوجوه الجديدة ..
***
ولكن حدث ما جعلنى أحط الرحال واستقر الى حين ..
ففى بداية شهر مارس عام 1930 أقمت مع سيدة سويسرية كانت تسكن وحدها فى شقـة صغيرة بالدور الرابع فى شارع الشيخ حمزة ، وفى حى جميل متألق .. حى قصر النيل ..
فقد غيرت هذه السيدة من طباعى ونهج حياتى وجعلتنى أطيل مدة مكوثى فى بيتها لأن الشقة كانت جميلة فى بساطة ولأنه كان من طبيعة عملها كممرضة خاصة أن تتغيب ثلاثة أو أربعة أيام متصلة من كل أسبوع للحالات المرضية التى كانت تتطلب وجودها بجانب المريض حتى يزول عنه الخطر أو يتداركه الله برحمته ..
وقد ولد هذا عندى الاحساس الدائم بأنى أملك الشقة وحدى ..
وكنت أدفع لها جنيهين فى الشهر نظير السكن فقط وآكل فى الخارج لأنها لم تكن تطهو فى البيت ..
ولأنى كنت أقيم فى القلب قريبا من البنك الذى أعمل فيه ومن المطاعم ودور السينما ، فقد كنت لا أستعمل المواصلات قط فى ليل أو نهار .. وقد جعلنى هذا أمشى وأمشى حتى المشاوير الطويلة وكان هذا المشى يمدنى بنشاط وقوة أفادانى كثيرا فى علاقاتى بالنساء ..
وشعرت فى هذا البيت الجميل براحة تامة انعكس ظلها على عملى وتحركاتى ولكن فى الأشهر الأربعة الأولى من اقامتى مع هذه السيدة ـ وأنا أتعمد هنا عدم ذكر اسمها أو حتى الرمز إليه ـ كان بينى وبينها جفاء لا أستطيع تعليله فى وقتها .. وصراع كاد يتحول إلى مقت شديد .. إذ كنا عند اللقاء لا نتبادل أكثر من تحية عابرة ..
وكان معى مفتاح الباب مثلها .. وكثيرا ما كنت أشاهدها وأنا داخل جالسة فى الصالة الصغيرة تتحدث فى التليفون وهى مسترخية ولابسة قميصا من الدانتلا الأسود وكاشفة عن كل مفاتن جسدها ..
ولا أدرى أكانت تفعل ذلك عن عمد لاغاظتى واثارتى فى وقت واحد أم لطبيعة متأصلة فيها ..
وكنت اجتازها سريع الخطو ومكتفيا بأن أحنى رأسى لها محييا وأدخل على التو إلى غرفتى ..
ولم يكن يقيم معها سواى .. فالشقة مكونة من غرفتين فقط وردهة صغيرة .. غرفة لها .. والأخرى لى .. ووضعت كرسيين ومائدة عليها التليفون فى الردهة ..
ولم يكن يزورها فى البيت أحد لا امرأة ولا رجل .. كانت تحب الهدوء لدرجة كبيرة وقد وجدت فى شخصى نفس الطباع ..
ولذلك حرصت على أن أبقى رغم ما كان بيننا من جفاء ظاهر ..
وكان فى إمكانها طردى فى أى وقت تشاء ولكنها لم تفعل ..
وحدث ما قلب ظهر المجن ..
ففى ليلة قدرت فيها غيابها .. اصطحبت معى امرأة إلى البيت ..
وبعد نصف الليل وأنا فى الفراش مع المرأة .. شاهدت نور الردهة يضاء .. فعرفت أن صاحبة البيت أنهت مهمتها فى الخارج وعادت .. وظهر علىَّ الإرتباك ثم تماسكت .. ورأيت أن تبقى غرفتى فى ظلام تام إلى الصباح ..
وفى بكرة الصباح أخرجت المرأة .. وفى تقديرى أن السيدة السويسرية لم تشاهدها ولم تشعر بها .. ولكنها كانت قد شعرت بها ورأتها رأى العين ..
وعندما واجهتها كنت أتوقع الشجار العنيف .. ولكنها تجاهلت المسألة تماما ولم تشر إليها بحرف ..
وبعد يومين وكنا فى صباح الأحد وهو يوم العطلة فى البنك .. شاهدتها بملابس البيت فى غرفتها تغير ملايات السرير .. وأكياس المخدات .. استعداداً للغسيل وكانت تغسل فى صباح ذلك اليوم ..
وقالت لى بالفرنسية وهى تمسك وسادة بيدها :
   ـ تعال أمسك معى كيس المخدة ..
ودخلت غرفتها لأول مرة .. وتناولت طرف الكيس وأمسكت هى بالطرف الأخر وأخذت تدخل المخدة فى الكيس فى تمهل .. ثم جذبت بشدة .. فجذبتنى معها وسقطت بجوارها على السرير ..
وقالت ضاحكة بخبث وعيناها تلتمعان :
ـ أين ذهبت قوتك ..؟
ولم أشعر بنفسى وأنا أطوقها بذراعى وأضمها بعنف وشفتاى تبحثان عن شفتيها الحالمتين ..
وتظاهرت بالمقاومة وأخذت تدفعنى أولا بيديها فى دلال .. ثم لفت ذراعيها حولى وأخذت تشدنى إليها بنشوة ..
وأدركت من طراوة شفتيها والرغبة المشتعلة فى جسدها .. بتأثير عملها كممرضة على أعصابها .. فالسهر بجوار مريض لا تربطها به سوى علاقة إنسانية محددة بمزق الأعصاب ويتطلب الراحة الطويلة والمتعة بعدها ..
وظلت بين ذراعى كالطفلة وهى مغمضة عينيها ساعات ..
ورأيت بجوارى كل الجمال الذى كنت أتصوره وأحلم به .. شعرا أسود شديد النعومة تنأثر على الوسادة وكون هالة لوجه أبيض جميل بديع القسمات ملوحا قليلا بشمس القاهرة .. وعينين خضراوين ناعستين .. وشفتين فى لون الكريز .. يسيل منهما رضاب أحلى من الشهد .. وقبلت أذنيها وعينيها وشعرها وشربت من رضابها ..
ومر النهار كله ولم نبرح فيه الغرفة .. وتركت الغسيل كما هو مكوما بجوارنا وكل شيء فى فوضى .. ونسيت أنا سباق الخيل الذى اعتدت الذهاب إليه كل يوم أحد ..
وسألتنى وهى مسترخية كالحالمة :
   ـ رشاد .. هل أسرتك بعيدة عن القاهرة ..؟
    ـ فى أسوان ..
    ـ وأسوان .. بعيدة ..؟
    ـ جدا .. جدا .. ألف كيلو متر ..
    ـ وجميلة ..؟
 ـ أجمل المدن المصرية .. وفيها المناظر الطبيعية الجميلة .. كبلادك .. والبحيرات وصخور الجرانيت السابحة فى الماء الصافى ..
ـ وتأخذنى معك إليها ..؟
ـ عند أول سفر ..
ـ ومتى تسافر ..؟
ـ بعد عشر سنوات ..
وضحكت .. وتعانقنا ..
وقد دامت علاقتى بها سنتين كاملتين .. ولم تكن تمر ليلة توجد فيها تحت سقف بيتها من غير أن أتصل بها .. كانت تغرينى بمداعباتها ولا تتركنى قط إلا بعد أن تنطفئ الجذوة المشتعلة فيها ..
ولقد كانت هذه السيدة السبب فى أن آخذ الدش البارد كل صباح .. وأتعود عليه بعد ذلك طوال حياتى ..
وكانت تسألنى :
ـ لماذا الحمام البارد فى كل صباح .. ألا تشعر بالبرد ..؟
واجيبها مبتسما :
ـ لأغسل أوضارى ..
ـ كل يوم فيه أوضار ..؟
ـ كل يوم .. وسيفرغ ماء المحيط .. ولا تنتهى ..
ـ أى شيطان أنت .. أى شيطان ..
وتضحك وهى تدور بجسمها جذلانة ..
***
وذات ليلة فتحنا النافذة على سماء القاهرة الجميلة .. وخلينا الغرفة فى الظلام .. وسألتها ..
ـ ألا تحتاطين للمسألة ..؟
فردت متجاهلة :
ـ أية مسألة ..؟
ـ المسألة التى تعرفينها ..؟
ـ أوه .. يسرنى أن تكون قطعة منك فى أعماقى ..
وقبلتها .. وسمعنا رنين التليفون فلم تتحرك ولم ترد عليه ..
ومرت أيام جميلة أشبه بالأحلام .. وفى صيف عام .. حدثتنى بأنها مضطرة إلى مرافقة مريض كهل يرغب فى الاستشفاء فى أوربا .. وقد حاولت الاعتذار فلم تستطع لأنه من أسرة كريمة وتربطها بهم معرفة قديمة .. وكانوا هم السبب فى حضورها إلى مصر وإقامتها فيها .. وحالته تستدعى الشفقة ..
وقدرت غيابها فى هذه الرحلة بثلاثة شهور ..
وقررت أن تترك لى الشقة حتى تعود فى نهاية الصيف ..
ولكنى بعد تفكير طويل قلت لها ..؟
ـ ولماذا لا أسافر مثلك ..؟
فظهر عليها الابتهاج .. وقالت :
ـ تسافر معنا .. ستكون رحلة ممتعة .. ممتعة جدا ..
 فقلت مصححا : 
ـ سأسافر على نفس الباخرة .. وكأنى لا أعرفك .. سأسافر إلى ميناء " بيريه " .. أوجنوا .. فقط ثم أتركك وآخذ السكة الحديد ، ونتقابل بعد ذلك فى البلد الذى نتفق عليه ..
ـ هذا جميل ..
ولكن كيف السبيل إلى السفر وليس معى قرش واحد يفيض عن مصروفى اليومى ..
(2)
كانت السيدة السويسرية تعرف أننى فقير ولا أستطيع أن أطلب أى مبلغ من والدى ومورد رزقه محدود لا يتعدى ثمرات النخيل .. ولذلك عرضت أن تقرضنى مائة جنيه لأحقق رغبتى فى السفر .. ولكنى رفضت العرض بشدة ..
وفكرت فى المقامرة فى السباق .. وكنت أذهب فى يوم الأحد إلى الحلبة اذا كان الميدان فى " الجزيرة " وأقامر بثلاثين قرشا .. أخسرها أو استردها مع ربح قليل فوقها ..
وما كنت ابتئس فى حالة الخسارة لأن ما أراه فى ساحة الحلبة من النساء الجميلات المتأنقات كان بمثابة تعويض لى تهتز له مشاعرى وتتفتح نفسى ، وقد جعلنى الإستغراق فى السباق أقف منهن عند حد المشاهدة والاكتفاء بالحديث الطلى وأجد فى ذلك متعة شاعرية ..
أما اذا انتقلت الحلبة إلى الأسكندرية فى الصيف .. فقد كنت أعانى كربا شديدا من وقوفى مع المتعطلين والمتسكعين ومحترفى القمار بمكتب السباق فى شارع " عدلى " بالقاهرة من الظهر حتى الساعة الخامسة مساء دون طعام أو شراب ..
وحولى المقامرون بملابسهم المهلهلة الرثة وعلى وجوههم التعاسة والضياع يترقبون بلهفة كل حركة تصدر من المكتب وعيونهم مسددة كالسهام إلى اللوحة السوداء .. واليد التى تكتب بالطباشير .. اسم الجواد الفائز بعد كل شوط ..
كنت أذهب إلى هناك كل أسبوع وانحشر معهم فى ممر ضيق واشتم رائحة عرقهم وقذارتهم وأراهم يقامرون بقوت يومهم ورزق عيالهم .. ومن بينهم الخدم والفراشون فى المكاتب .. الذين كانوا يسرقون ليلعبوا القمار ..
وفى كل مرة كنت ألعن نفسى .. حتى فى حالة الربح .. وأقسم ألا أعود ..
ولكن فى الاسبوع التالى أجد نفسى واقفا بينهم فى الحر الشديد والعرق والقذارة ..
وكنت أشعر فى ذلك الحين بأننى أكثر ضياعا منهم ..
وقد أفادتنى هذه التجربة التى استمرت معى ثلاث سنوات متصلة .. فكرهت بعدها كل أنواع القمار .. ولا أذكر أننى أمسكت بورقة كوتشينة مرة واحدة فى حياتى .. كما أنى لا أعرف لعبة واحدة من لعبها ..
وما حدث فى ذلك يجب علىًّ أن أسجله بأمانة ..
***
كان ذهنى مشغولا بالسفر للخارج وقدمت طلبا للبنك لمنحى إجازة ووافق على الأجازة وأعطانى ثلاثة أشهر مقدما يعنى 24 جنيها وهى بذرة طيبة تشجع على الرحيل وقطع خيط التردد ..
ولكن يجب أن يكون معى مائة جنيه على الأقل .. لتكون الرحلة جميلة ومشبعة لرغباتى .. وأشاهد فيها أكثر من بلد .. وكان الكساد والرخص الشديد يعمان العالم كله فهذا المبلغ كاف لأن أطوف ببلاد أوروبا جميعا ..
وحصرت تفكيرى فى السباق لآتى بالمبلغ ..
وفى عزم أكيد قدرت الربح ولم أفكر فى الخسارة وأنا أتقدم إلى الشباك .. ولعبت على جواد كالسهم بعشرة قروش .. فضاعت ..
وعلى ثلاثة جياد بعشرين قرشا .. فضاعت هى الأخرى ولم يظهر من الجياد الثلاثة " الغافوريه " جواد واحد ..
ووقفت أتصبب عرقا .. وأكاد أسمع ضربات قلبى .. وبحركة لاشعورية من مقامر محترف أخرجت من جيبى جنيها ولعبت لعبة يسمونها " دوبل توت " .. فربحت مائة وثلاثين جنيها وانتهى بها عهدى بالخيل والسباق إلى الأبد ..
***
وفى الصباح التالى بدأت استخرج جواز السفر وأمر على السفارات وقنصليات البلاد التى انتويت زياراتها ..
وتمت كل التأشيرات فى أقل من أسبوع وكانت بعض هذه الدول ليس لها قنصليات فى القاهرة وقنصلياتها فى الإسكندرية فقط ..
فأرجأت التأشير لحين سفرى إلى الاسكندرية ما دمت سأركب البحر ..
وكانت فرحة السيدة السويسرية بالظروف التى ساعدتنى على السفر كبيرة .. وأخذت تعد حقائبى بيدها ..
ولكن حدث ما جعلنى لا أسافر معها على نفس الباخرة .. اذ كانت ستسافر على باخرة ايطالية فى السابع عشر من يونيو ولم أجد لى محلا فيها .. فاضطررت إلى السفر على باخرة رومانية بعدها بعشرة أيام ..
وكان علىَّ أن أقضى الأيام العشرة التى بعد سفرها وحدى فى القاهرة ..
وفضلت أن أنتقل إلى مكان أخر .. وأجعلها تغلق شقتها بيدها خشية أن تحدث سرقة أثناء غيابى وأتحمل أنا بعض المسئولية ووخز الضمير ..
وفى ليلة سفرها عانقتنى بحرارة كأنها تودعنى .. تجمعت غريزتها الأنثوية وتفجرت فى هذه الساعة ..
***
وحملت الحقيبة بيدى .. لأبحث عن غرفة لمدة عشرة أيام فقط ..
لم أرغب فى المشى طويلا وبيدى الحقيبة ما دامت الإقامة لمدة مؤقتة .. وقررت ألا أخرج عن دائرة قصر النيل ..
ولم تكن القاهرة مختنقة بالسكان فى ذلك الوقت .. كانت هادئة وخالية .. واللافتات على الجانبيين وأنا أتحرك فى الشوارع الرئيسية والشوارع الخلفية وكنت فقط أبحث عن غرفة فى الأدوار العلوية بعيدا عن ضجيج الشارع ..
ووجدت لافتة تشير إلى غرفة فى الدور الثالث بشارع الأمير " قدادار " .. وضغطت الجرس وفتحت لى الباب صاحبة البيت وكانت سيدة أجنبية مسنة .. ومع أننى أنفر من العجائز .. ولكن وجهها البشوش جذبنى إلى الداخل ..
وكانت الشقة أشبه بعربات السكة الحديدية .. طرقة طويلة والغرف من جانب واحد فى صف على يمين الداخل .. وعرضت علىَّ غرفة فى نهاية الطرقة .. ولها نافذة قديمة تطل على شارع خلفى ..
ولم تكن مقبولة فى الصيف .. ولكننى قبلتها لأننى شعرت وأنا داخل بالهدوء الذى أحبه وبأن الشقة تكاد تكون خالية مع كثرة ما فيها من غرف ..
ووضعت الحقيبة فى الغرفة ونزلت لأقضى بعض الشئون .. وعدت فى العصر .. وكان الحر لافحا .. فنمت إلى الغروب وخرجت لأجلس فى مقهى قريب .. حتى يحين موعد العشاء ..
وعدت إلى البيت بعد العشاء .. فوجدت المدام قد هيأت الفراش بعناية ووضعت دورقا مملوءا بالماء المثلج على المنضدة ..
ونمت نوما عميقا .. وفى الليلة التالية ظهر لى أن هناك ثلاث غرف مشغولة بالنزلاء فعلا على خلاف ما تصورت .. وسبب عدم رؤيتى لهم هو أنهم يلعبون القمار من الساعة العاشرة ليلا إلى الصباح فى الشقة المقابلة ..
وكان من بين النزلاء سيدة مصرية متزوجة معها خادمتها وهما الوحيدتان اللتان تبقيان فى الشقة معى ولا تذهبان للمقامرة ..
وكانت الخادمة تنام فى المطبخ والمطبخ شديد الحرارة فى الصيف وليس فيه نسمة فكانت المسكينة تنام من غير غطاء ..
ورأيتها ذات ليلة وأنا أغير ماء الدورق من الثلاجة التى فى المطبخ نائمة على البلاط .. ارتفع ثوبها عن فخذيها وظهرت تقاطيع جسم جميلة ندر أن شاهدت مثلها فى النساء .. جمال مثير ملقى على البلاط ولا يفكر فى رحمته لا الزوجة ولا بعلها المقامر .. وأخذتنى الشفقة على الفتاة النائمة وكنت أود أن أغطيها وأضم عليها ثوبها .. ولكننى خشيت أن أية حركة منى قد توقظها فكنت أتركها وأمشى على طرف أصابعى رغم أن المنظر كان يثيرنى ويلهب حواسى ..
وكان المقامرون فى عالم آخر لا يشعرون بأحد يدخل الشقة ليسرقها أو يذبح من فيها ..
كانوا يستغرقون فى المقامرة بدرجة لم تكن تخطر على بالى ولا أتصور أن مثلها يحدث لإنسان .. استغراق مطلق .. واغفال تام من أى شيء آخر يجرى حولهم ..
                                   ***          
وفى الليلة الرابعة رأيت الزوجة الجميلة جارتى عرضا وكانت واقفة على بابها تنادى على خادمتها لتأتى لها بأنبوب اسبرين من الأجزخانة .. فقلت لها وأنا مار فى الطرقة :
ـ عندى اسبرين .. يا هانم ..
ـ شكرا .. وليه نتعبك ..
وقدمت لها الأنبوبة فأخذت منها قرصا واحدا وردتها .. ولكننى طلبت منها أن تبقيها معها .. حتى يزول الصداع .. وحدث تلامس بالأيدى غير مقصود وأنا أقدم الأنبوبة وهى تدفعنى برقة مستكفية بالقرص .. وتبادلنا النظرات ..
وقرأت فى عينيها مقدار عذابها من وحدتها وتعطشها للحديث والسمر فزوجها يأتى من الخارج إلى مائدة القمار .. التى تبدأ من الساعة العاشرة وهى لا تشترك معهم فى اللعب ولا تجلس كمشاهدة وحدثتنى أنها جلست بجانبه ذات مرة لتشاهد .. فخسر زوجها مبلغا كبيرا وقال لها أنها سبب نحسه .. ومن وقتها لم تدخل الشقة التى يلعبون فيها ..
وتظل فى غرفتها ساهرة وحدها إلى أن يأتيها النوم .. وهى على حالة من القلق واضطراب الأعصاب ..
وأعطيتها كل ما معى من مجلات مصورة .. مجلة العروسة .. وغيرها .. وبعض المجلات الأجنبية ..
وعدت من الخارج قبل منتصف الليل فوجدتها ساهرة فى غرفتها .. ولما أحست بى خرجت من الغرفة إلى دورة المياه ثم عادت .. قامت بهذه الحركة مرتين فى أقل من نصف الساعة ..
وكنت احتاج إلى شيء فى المطبخ .. فنقرت على غرفة مدام " مارى " صاحبة البيت فلم أجدها وأدركت أنها ذهبت أيضا لتلعب القمار .. فذهبت بنفسى ورأيت الخادمة نائمة فى نفس الوضع .. فتألمت .. ولما رجعت شاهدت الزوجة على بابها .. وحييتها وقالت :
ـ أنت لسه صاحى ..؟
ـ آه .. وانت ..
ـ ما بيجينيش نوم دلوقت ..
ـ ما تتفضلى نتكلم شوية ..
فخرجت من الباب ..
وتطلعت بعينيها يمينا وشمالا ثم دخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..
***
(3)
وقالت وهى تدير عينيها فى الغرفة وقد اكتسى خداها بلون التفاح :
ـ غرفتك جميلة ..
وتبخترت كالطاووس ثم أمسكت بصورة لسيدة كانت على المنضدة ، وقالت فى رقة ودلال :
ـ أنها جميلة جدا .. من تكون يا ترى ..؟
ـ ولكنها ليست فى مثل جمالك .. وهى لسيدة نمساوية نزلت عندها منذ سنتين كانت طيبة للغاية ..
وسددت نظرها إلىّ وقالت كالمداعبة :
ـ وأنت ايضا طيب ..!
ـ شكرا .. تفضلى .. استريحى ..
وأمسكت بيدها وأجلستها على الكرسى الوحيد فى الغرفة ..
ورفعت إلىَّ عينين ذابلتين وقالت :
ـ وأنت .. أين تجلس ..؟
ولم أجب .. وكنت لا أزال ممسكا بيديها فقربتهما من شفتى وقبلتهما بحرقة وأحست بحرارة عواطفى فتركتنى أقبل شفتيها ووجنتيها وشعرها ..
       وخلعت ملابسها فى الظلام .. طلبت منى أن أطفئ النور .. وأغلق شيشي النافذة الوحيدة .. وغرقت الغرفة فى ظلام دامس .. ولكنى كنت أرى وجهها الأبيض .. وصدرها المرمرى .. ولمعان عينيها والرجفة التى على شفتيها .. من خلال الظلام .. وكنت أقبل فى شفتيها شفتى الخادم النائمة هناك فى المطبخ .. كانت أجمل منها وأكثر نضارة وفتنة .. ولكنى تركت الزهرة الجميلة هناك بعطرها وكل شذاها .. وأقبلت على هذه باشتياق وصورة الأخرى لا تفارقنى لحظة ..
       وسمعتها تهمس وشعرها محلول على الوسادة أحلك من الليل ..
-         ما اسمك ..؟
-         رشاد ...
-         وأنا اسمى .. فوزية ..
-         اسكندرانية ..؟
-         أجل .. وكيف عرفت ..؟
-         اسم فوزية .. يكثر بين الهوانم هناك .. لأنه جميل ..
-         صحيح ..؟
-         آه ..
وتعانقنا قبل أن تفتح الباب وتخرج من غرفتى .. وانسابت إلى اليسار ثم رجعت متأنية فى الطرقة كأنها خارجة من دورة المياه بحركة بارعة تتقن الأنثى تمثيلها فى مثل تلك الأحوال ..
ولم يكن هناك ما يدعو إلى هذه الحيطة .. لأن الشقة لم يكن فيها سوانا أما الأخرون فكانوا على حالهم مستغرقين فى المقامرة ..
وكانت الخادم من تعب العمل فى النهار تنام كالقتيل ..
***
       وتكررت زيارة فوزية لى فى الليالى الباقية .. وتولد بيننا شيء أشبه بالحب .. حتى أننى فى ليلة السفر كتمت عنها خبر رحيلى إلى الخارج .. وأخبرتها بأننى مسافر إلى الإسكندرية لمهمة تتعلق بعمل البنك .. قد تستغرق أسبوعين .. وسأعود لنفس البنسيون ..
       وقدمت لها هدية صغيرة سرت بها كثيرا ..
       أما الخادم " عزيزة " فقد أعطيتها ريالا فضيا .. وأمسكت بيدها طويلا وأنا أحدق فى عينيها العسليتين .. ورأيت فيهما من البراءة والطهر .. ما جعلنى أحمد الله .. لأنى تركت هذه الزهرة المتفتحة فى مكانها تتضوع بالأريج فلم أقطفها ثم ألقيها بعد ذلك فى الوحل ..
       ووصلت الإسكندرية بعد الظهر وكانت المدينة الجميلة متألقة وزاهية .. ولم تكن مزدحمة بالمصيفين .. كان هؤلاء يعبرون بها مجرد عبور .. ثم يركبون البحر إلى أوروبا .. فالدنيا رخيصة فى كل مكان .. وبجنيهات قليلة يستطيع كل إنسان أن يسافر ..
       وقضيت الليل فى " لوكاندة " على البحر فى محطة الرمل .. وغمرتنى حالة من الشاعرية فى هذه الليلة قررت بسببها أن ابتعد عن النساء ..
       ولا أدرى أكان ذلك لفرحتى الشديدة بالسفر .. التى سيطرت على كل مشاعرى وطمست ما عداها أم لأننى كنت فى الواقع اختزن لهذه المدينة جولات بعد عودتى من أوروبا ..
       وفى الصباح كان أمامى متسع من الوقت لأمر على القنصليات التى لم أخذ منها التأشيرة وأنا فى القاهرة .. فالسفينة ستقلع فى الساعة الرابعة مساء ..
       وقال لى أحد الموظفين الأجانب بعد أن أشر على جواز السفر.. وقد حسبنى طالبا ومسافرا لأدرس الطب ..
ـ إذا كنت يا بنى تود أن تنجح وتنال الدكتوراه حقا فى الطب فابتعد فى أوروبا عن النساء ..
فقلت شاكرا :
- هذا طبيعى ..
وبعد أن شيعنى على الباب .. همست :
-         اذا امتنعت على النساء .. فعلام السفر ..؟
***
       وكانت سفينة " القرن الذهبى " أول سفينة أركبها فى حياتى ..
       وكانت حمولتها متوسطة ، يعنى لم تكن من السفن الضخمة التى تعبر الميحطات .. ولكننى عندما تجولت فيها شعرت بها كبيرة جدا .. وكنت أتوه فى ممراتها ..
       وكان البحارة قد نظفوها وغسلوها كلها قبل أن ترسو فبدت متجلية كالعروس فى ليلة زفافها .. كان الخشب ناعما كالحرير .. والأبواب لامعة .. والمقابض النحاسية تبرق والممرات مغطاة بالسجاد .. والأنوار فى الطوابق مضاءة فى النهار .. وزاهية وجميلة ..
       وحجرة الطعام فى كل طابق على أجمل تنسيق وفى الدرجة الأولى من الفخامة .. وقوارب النجاة معلقة على الجانبين .. وفى السطح ملاعب واسعة للأطفال ومضرب للتنس ..
***
       وعندما أطلقت السفينة أولى صفارتها .. وقفت مع المسافرين فى الطابق الثانى نلوح بأيدينا للمودعين على رصيف الميناء .. ولم يكن يودعنى انسان .. ولكن وقفت وسط جمع كبير من الركاب ألوح بيدى .. وأرى الدموع تتساقط من النساء حولى ..
       وكان على كوبرى السفينة الذى أقف عليه خليط من البشر من قارات أوربا وأسيا وأفريقيا .. وقليل من المصريين وأنا بينهم أشعر بفرحة عظمى لأنى أركب البحر وحدى وأنا شاب فى مقتبل العمر ..
       وعندما استدارت السفينة وأطلقت أخر صرخاتها .. واستقبلت البحر والموج بصدرها ، أصبحت الإسكندرية بنايات صغيرة بيضاء تتوهج فى ضوء الشمس والساحل الرملى قد طواه الموج ولم نعد نراه بعد ..
       وتركت الكوبرى بعد ان غابت المدينة عن بصرى ونزلت من السلم أجوب فى ممرات السفينة وهبطت كل الطوابق حتى بلغت القاع .. حيث توجد الآلات والمحركات ..
       وأول شيء طالعنى هو وجوه البحارة الملطخة بالفحم أمام النار .. وكان الفحم هو الذى يحرك السفن فى ذلك الحين ..
***
       ووقفت طويلا أمام اللهب غير عابئ بالحرارة الشديدة ووهج النار .. وكان البحارة الطيبون فى سراويلهم الزرقاء وصدورهم العارية لا يعبأون بفضولى .. وهم يجرفون الفحم ويغذون النار ..
       وقدم لى واحد منهم كوبا من الشاى كان قد جاء به على التو من الكانتين .. فشكرته بحرارة ..
       وقال لى بالفرنسية :
ـ ان الكانتين هناك .. وتستطيع أن تأكل وتشرب منه ما تشاء اذا لم يعجبك طعام المركب ..
فقلت له فى ابتسامة لها معناها :
- انى مسافر على الظهر ولا يقدم لمثلى الطعام ..
       فقال على الفور حتى لا يشعرنى بالخجل :
       - هذا أحسن فأنت شاب ويجب أن تتمتع بجمال البحر فى الليل .. واذا أحسست بالبرد .. فاننى استطيع أن أعثر لك على كابينة خاصة ..
       - حقا .. أشكرك جدا .. وكم أدفع فيها الى نهاية الرحلة ..؟
       - أى شيء .. إنها كابينتى .. وأنا لا أنام فيها قط ..
       - هل أستطيع أن أراها الآن ..؟
       - بالطبع تفضل ..
       ومشيت وراءه فى الطرقة الدائرية .. حيث توجد قمرات البحارة الصغيرة الأنيقة ..
       وفى نهاية الطرقة فتح لى باب قمرته .. وكانت نظيفة ولا ينقصها أى شيء يطلبه المسافر وراقت لى جدا ..
       وسألنى :
-         أعجبتك ..؟
-         انها رائعة ..
-         حسن .. خذ المفتاح من الآن ..
وأعطيته جنيهين فوضعهما فى جيبه دون أن ينبس .. وحيانى ومضى لسبيله ..
وعندما خرجت من القمرة .. لآتى بحقيبتى لمحت سيدة لا أعرف جنسيتها تخرج من قمرة فى نفس الممر .. فأدركت أنها أجرتها أيضا من بحار أخر ..
***
       وفى الليلة الرابعة من ليالى السفر .. نقرت هذه السيدة على باب " قمرتى " بلطف واستحياء وكانت تسأل عن قرص " أسبرين " .. لتعالج به الصداع ..!
       وفى الصباح سألتنى ونحن متكئان على حاجز السفينة نرقب الموج :
-         إلى أين ..؟
-         إلى بحر الزمرد ..؟
-         هل تأخذنى معك ..؟
ـ بكل سرور .. وأنت جزء من هذا البحر .. أنت الزمرد الذى فى أعماقه ..
وبدأ على وجهها السرور ولا أدرى أفهمت أم لا .. ولكنها اقتربت منى أكثر وأكثر .. والموج يصارع السفينة ..
============================ 
نشرت القصة فى مجلة روز اليوسف بالعدد 2214 بتاريخ 16/11/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
============================


 
الظل

بارحت السيارة الجيزة فى جو مشحون بالغبار .. وكانت الليلة كئيبة وداكنة وأنوار الحوامدية تبدو من بعيد كالشهب ..
وكانت الحمولة ثقيلة .. وضعف ما تحمل السيارات العادية .. ولكن العربة كانت جديدة وقوية ومن أحسن طراز فى سيارات النقل ..
وكان السائق منذ خرج بها فى الساعة العاشرة ليلا من شارع الأزهر وتخطى دائرة المرور فى العاصمة الكبيرة يسير على نسق واحد وسرعة واحدة .. لا يغيرهما قط ..
       ونام العمال الثلاثة بعد أن تغطوا بالأحرمة منذ تركوا مشارف الجيزة على سطح العربة فوق الشحنة المغطاة بالمشمع ..
       كان التعب وجهد الليل فى الشحن قد أطفأ الحياة على سطح السيارة .. ناموا كالموتى..
       وكان السائق وحده هو الساهر فى هذا الليل وأنوار السيارة تلحس الظلمة الطاغية وتطويها .. لم يكن نور الكشاف يستعمل إلا قليلا ..
       كان " عبد الغنى " خبيرا بكل شبر فى الطريق والعتالون الثلاثة أكثر منه خبرة فى شحن السيارات الكبيرة وتفريغها منذ عشر سنوات وهم يقومون بهذا العمل فى الليل والنهار فى الحى التجارى شريان الحياة للعاصمة وينبوعها ..
       وكانت حياتهم مكفولة رغم ما فيها من مشقة .. يتحركون فى طول البلاد وعرضها فكان ليلهم نهارا ونهارهم ليلا .. ويلتقون بكل الناس الأشرار والأخيار ويركبون المخاطر فى سبيل لقمة العيش ووجودهم مرتبط بهذه الآلة فاذا تعطلت تعطلوا .. ولم تكن آلامهم تأتى من العمل الشاق وما فيه من جهد بقدر ما تأتى من تبطلهم .. ولكن الريح تهب دوما والعجلة دوارة ولم تتوقف أبدا .. فالتجارة رابحة .. وسيارات النقل تمضى كقوافل الإبل فى كل الطرق ..
       كانت السيارة تتوقف لحظات عند نقط المرور للتفتيش ..
       ويجيب السائق فى كل الحالات :
-         تمام .. يا أفندم ..
ويرتفع المصباح الأخضر فى يد الجندى ..
وتتحرك السيارة ..
ولم يكن رجال المرور فى هذه الأكشاك على طول سكة السيارات فى خط الصعيد يستوقفون أحدا للتفتيش أو لفحص الرخص .. إلا فيما ندر من الحالات .. لأن وجوه السائقين معروفة لهم .. فبعضهم يمر مرتين فى اليوم الواحد ..
واعتاد السائقون دائما فى هذا الخط أن يتحركوا فى الليل .. لأن الطريق شاق وطويل .. ولأن السيارة تقطع كثيرا والناس نيام ..
ولكل سيارة من هذه السيارات سائقها وعمالها المخصصون لها ..
فكل سائق يعرف دقائق سيارته ..
       ولذلك يندر جدا أن تتعطل سيارة من سيارات الشحن فى الطريق .. للخطورة التى تتعرض لها سيارة محملة بالبضائع .. وهى تتوقف فى الليل والظلام ..
       وعلى الرغم من سواد الليل فان الأنوار كانت تلمع فى القرى الصغيرة البعيدة ولكن سحابة مطبقة من الجهامة كانت تلف المزارع كلها على الجانبين .. فى هذه الليلة من ليالى الشتاء ..
       وكانت ترعة الإبراهيمية على الجانب الأيسر من الطريق وتبدو مياهها دكناء والأشجار التى على شاطئيها تترنح من هبوب الريح ..
       وكان التراب ظاهرا على سطح العربة وأرضيتها وعلى المشمع الذى يغطى صناديق البضائع ..
       وكان السائق لكثرة خبرته ومرانه يسير بوحى الغريزة .. على سرعة واحدة لا تتجاوز سبعين كيلومترا فى الساعة ..
       وكان يرى على الجانبين المصانع الجديدة .. والمدارس والمستشفيات .. والمساكن الشعبية .. والوحدات المجمعة .. والأسواق .. ومخازن البنوك .. والحقول المزهرة .. والأشجار الضخمة ..
       وكانت العربة منطلقة إلى سوهاج وفى التقدير الزمنى للمسافة .. وبعد التوقف مرتين فى الطريق .. للراحة .. سيبلغ السائق سوهاج فى الساعة الثامنة صباحا .. وفى الثامنة والربع سيقف أمام مخازن رمضان ليفرغ الشحنة ..
       وقد اعتادت عيناه الظلام وكان الأفق البعيد يبدو ساقطا على الأرض .. والسماء فيها نجوم ضئيلة شاحبة .. كأنها ستغرب قريبا ..
       وكانت أشجار النخيل تلف القرى وتطويها وتبدو بيوتها الساكنة فى عتمة الليل سوداء حالكة ..
       وكان الفضاء الخالى يضفى احساسا بالوحشة الرهيبة .. والريح الباردة تهب وتصفر كالغيلان ..
وكان محرك السيارة يطن فى نغمة رتيبة والنور الصغير يلحس الطريق المرصوف ..
       وأضاف الظلام إلى العربة الداكنة منظرا مخيفا فى الليل الأسود ..
       وكانت ترعة الإبراهيمية قد حركت مياهها الريح .. ولم يكن على شاطئيها فى تلك الساعة إنس ولا جان ..
       وطوت العربة .. الفشن .. ومغاغه .. وبنى مزار .. وسمالوط .. وبقى على المنيا .. دقائق ..
       وظل العمال فى نومهم .. حتى بعد أن خفت سرعة العربة .. وأقبلت على مداخل المدينة .. وبقى السائق وحده ساهرا ..
       وكان هو الوحيد الذى يعرف ما تحتويه كل هذه الصناديق ..
***
       وأوقفوا العربة وسط قافلة طويلة من عربات النقل .. وجلسوا يشربون الشاى ويدخنون التمباك .. ويثرثرون ..
       وبعد ساعة تحركوا .. انطلقوا على الطريق والزراعات على الجانبين وأشجار الجميز والكافور عالية .. وكانت الكلاب تنبح فى الليل الصامت ..
       وبعد نصف ساعة من الحديث المألوف عن طعامهم وعملهم عاد العمال إلى نومهم .. وطوى السائق .. المحرص .. والروضة .. وملوى .. وبعد أن اجتاز نقطة من نقط المرور .. فى دير مواس .. لمح وهو يتسحب على الجسر .. ظلا يتقدم ببطء ثم توقف .. ولم يكن يلتزم جانب الطريق فهدأ السائق من سرعته .. ولكنه لم يتوقف بالعربة ..
       ولم يكن من عادته أن يتوقف قط فى الليل .. سواء أكانت العربة فارغة أم مشحونة لأن التجارب علمته هذا ..
       ووجد الظل لا يتحرك من مكانه فضغط على النفير .. ولكن الظل لم يغير موضعه .. فاشتعل رأس السائق بشتى الخواطر .. وخشى أن يكون كمينا نصب له فى الطريق .. ولكن عصف الريح جعله يقدر أن الرجل لم يسمع صوت النفير .. فأرسل نور الكشاف ..
       وبدا الرجل فى الضوء الباهر طويلا كالمارد .. ولمعت بندقية على كتفه ..
       وفكر عبد الغنى فى أن ينطلق بالعربة ويسحقه .. قبل أن يسحقهم هو برصاصه .. ولكنه عندما أصبح على قيد ذراعين منه أوقف السيارة ..
***
       وحيا الرجل الواقف على الطريق من فى العربة وكان العمال قد استيقظوا على حركة العربة وصوته وطلب أن يوصلوه إلى منفلوط فرد السائق بحزم :
-         ممنوع .. نحن لا نأخذ ركابا ..
-         إنها مسافة قصيرة ..
-         ممنوع .. ولا تؤاخذنى .. فى الرفض ..
ووقف الرجل صلبا .. ونزل " شعبان " أحد العمال من فوق سطح العربة .. وقال وهو يحدق فى وجه الرجل ..
-         خذه .. يا أسطى عبد الغنى .. فالدنيا برد .. ويمكن مروح لبيته ..
وركب الرجل بجوار السائق .. وركب شعبان بجوارهما فى الأمام ..
وضغط السائق على البنزين وهو لا يحس بوجود الرجل الغريب بجواره لوقع المفاجأة فلما تنبه إليه وتأمل سحنته .. شاع فى جوانبه الفزع ..
وظل الرجل المسلح صامتا دقائق طويلة وعيناه تنفذان من وراء زجاج العربة إلى كل ما يرى فى هذه الجهامة المطبقة ..
وكان يرتدى جلبابا أسمر وملثما بكوفية أدارها على عنقه وطواها على اللبدة ليتقى الريح ..
وظل الصمت يخيم على الجالسين فى مقدمة السيارة .. وانقطع حديث العتالين فوق السطح .. مزق الغريب بسلاحه جو الأمان الذى يخيم عليهم جميعا من قبل ..
مزق كل شيء بضربة سريعة خاطفة ..
       وخلال دوران خفيف للعربة مع الطريق .. حدث منه شيء رهيب .. فقد تناول السلاح وجذب الاكرة .. ثم ردها ..
       وكان الخاطر الأول للسائق فى هذه الساعة هو ان الرجل مطارد أو أنه سيوقف العربة فى المكان الذى يختاره ..
       ولاحظ السائق جو القلق الذى خيم على الجالسين فوق العربة وكيف أنهما اضطربا .. وأصبح حديثهما متقطعا ..
       لقد قتل جو الإرهاب الروح السمحة التى فى نفوسهم ومزقها ..
       وبدأ السعال من فرط التدخين .. تحركت صدورهم .. هاجت من الدخان .. الذى أكثروا من شربه ليهدئوا أعصابهم وكيف يواجه أربعة عزل .. شيطانا مسلحا ببندقية سريعة الطلقات .. لقد تخاذلوا وتركوا الأمر للمقادير ..
       ولم تكن أرواحهم أغلى عندهم من الشحنة التى يحملونها أمانة .. حتى تصل إلى صاحبها .. كانت الشحنة أغلى .. وسيدافعون عنها إلى أخر رمق .. العربة والصناديق والأكياس هذه الأشياء كلها جزء من كيانهم ووجودهم وعرقهم ..
       كان من عادة السائق أن يهدئ من سرعته كلما اجتاز مدينة أو قرية صغيرة على الطريق ولكنه منذ ركب بجانبه هذا الغريب .. لم يغير من سرعته قط ..
       ونظر إليه عبد الغنى فوجده فى حوالى الأربعين من عمره .. طويل الوجه خفيف الشارب له عينان سوداوان تلمعان وذقن مدبب ..
       ودفع الغريب يده فى جيبه وأخرج علبة سجائره وقدم سيجارة للسائق ولشعبان .. وأشعلها لهما وأوجدت هذه الحركة عاطفة انسانية بين الرجال الثلاثة فأخذوا يتحدثون فى كل الشئون ..
       وقص عليهما الغريب كيف ركب ذات مرة بجوار سائق لورى طيب وشهم فى ليلة كهذه وكان جريحا أصيب برصاصة قاتلة .. بعد معركة مع جماعة من الشياطين .. وطلب من سائق اللورى أن يوصله إلى " بنى مزار " فمشى به ساعات طويلة فى الليل والدم ينزف منه حتى أوصله الى بيت الدكتور عبد الرحمن .. وكان من أحسن الأطباء .. فأخرج الرصاصة وأنقذ حياته ..
       وأخذ الغريب يتحدث .. وكان مرحا ضاحك السن وفى صوته لكنة أحبها " شعبان " وأعجب بها .. وبشخصية الرجل جملة .. والسائق منطلق إلى أقصى سرعة وكانت الجهامة مطبقة .. وبصر السائق فجأة برجل يسوق دابة ويعبر الطريق وكأنه خرج من جوف الأرض ..
       ولما كانت المسافة بينهما قليلة جدا .. اضطر الى أن يضغط على الفرامل بعنف .. وينحرف جدا ليتفادى الرجل .. فمالت السيارة عن الطريق بقوة وعنف وانفتح بابها وسقط " شعبان " فى الترعة ..
***
       ووقفوا جميعا على الأرض إلا " شعبان " طفا .. ثم غطس ..
       ولما رآه الغريب وهو طاف خلع ملابسه بسرعة وأسرع إلى الماء لينقذ " شعبان " وغاص الغريب وطفا ثم غاص .. وطفا مرة ثانية .. وقد أمسك بالغريق ..
       وبدت الفرحة على الوجوه .. واستأنفوا السير وندى الفجر يتساقط ..
========================== 
نشرت القصة فى مجلة المجلة بالعدد 126 عدد يونية 1967 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
==========================



    الجــريح


      كان " عبد الغنى " .. خفير مزلقان على السكة الحديد فى الخط الشرقى وكان المزلقان يبعد عن مدينة الإسماعيلية ببضعة كيلو مترات .
     وعندما بدأت الحرب فى القنال يوم 29 اكتوبر .. لم يتغير شىء فى حياة عبد الغنى وفى الكوخ الذى يعيش فيه بجانب الشريط الحديدى .. فقط كان يرى قوافل السيارات والدبابات تتجه إلى الميدان .. ولا تنقطع التحركات لحظة وكان يقوم بحياته اليومية الرتيبة .. دون ملل . فعندما يسمع رنين الجرس فى الكشك الخشبى الصغير يتحرك سريعا ويغلق الخط ..
***
 ولم يكن فى هذا المكان المنعزل عن الحياة .. يستمع إلى الراديو أو يقرأ الصحف .. فغابت عنه كل تطورات المعركة .. ولكن جوارحه كلها كانت تحس بها .. كان يحس بها من تحركات الجنود فى الطريق ومن القطارات المحملة بالعتاد والدبابات والمدرعات .. التى تمر بجانبه .. ومن طائرات الأعداء .. التى تلقى القنابل فى كل مكان ..
     وكان الدكتور " قاسم " الطبيب فى أحد مستشفيات المدينة .. يمر بالمزلقان كل صباح وهو ذاهب إلى المستشفى .. وفى المساء وهو عائد منه .. وكان عبد الغنى يعرفه من سنوات ويحادثه كلما مر بسيارته ويسأله عن أخبار الحرب ..
     ولكن الطبيب انقطع عن المرور بالمزلقان فانشغل عبد الغنى وخشى أن يكون الطبيب الشاب قد أصيب برصاص الأعداء .. وأن تكون الحوادث قد تطورت وحملت معها الأنباء المحزنة .. فتألم .. وكانت طاقته العصبية تدفعه إلى الحركة وإلى سؤال كل عابر فى الطريق .
***
      وفى المساء .. سمع ما كان يخشاه .. سمع من سائق لورى عبر المزلقان .. أن الأعداء سيضربون بطائراتهم الخطوط الحديدية .
     فوثب " عبد الغنى " إلى السائق ليخنقه ثم رجع إلى نفسه فأفلته .. ووقف بعد أن ذهب الرجل وغاب بسيارته .. ينظر إلى ما حوله .. ويتساءل .. يضربون الخطوط الحديدية .. القضبان .. والفلنكات .. وأسلاك التليفون .. وأعمدة البرق .. والزلط والتراب الذى بين الشريط .. هذه الأشياء كلها قطعة من لحمه وجزء من دمه منذ ثلاثين عاما وهو خفير فى المصلحة .. وقد شربت رئتاه من دخان القطارات وامتزج عرقه بزيتها .. وانطبعت يده على حديد البوابة .. التى يفتحها ويغلقها مرات فى الساعة ..
     فكيف يدمر الخط .. ويعطل هذا الشريان الذى يتدفق فى دمه .. كيف .. ثار دمه وتيقظت حواسه كلها .. وكان غير مسلح .. فحمل بندقية سريعة ولم يعد مسئولا عن المزلقان وحده .. بل أصبح حارسا للشريط كله ..
     وفى اليوم السابق للهجوم الغادر على ميناء بور سعيد ، اشتد الضرب فى هـذه المنطقة وفى منطقة التـل الكبير والقصاصين .. وكانت المدافع المضادة تمزق طائرات الأعداء وتصليها بالنار الحامية.
     وكان عبد الغنى يرى بعض هذه الطائرات تحلق قريبا منه .. ثم تفرغ حمولتها وتلوذ بالفرار ، فكمن على ربوة بجانب الشريط وأخذ يطلق عليها النـار بشدة .. حتى تصور كل من سمـع الضرب أن هناك فصيلة كاملة تقاتل هذه الطائرات .. وترد على عدوانها ..
     أخذت بندقيته تزأر .. وحاصرته الطائرات وألقت حوله القنابل المتفجرة .. ومع هذا لم يكف عن القتال .. ظل يقاتل .. ويقاتل .. حتى أصابته الشظايا .. فجرح جرحا دفينا .. وسكتت بندقيته وغاب عن الوجود ..
***
     وعندما فتـح عينيـه .. وجد الظلام يخيم ومد بصره .. إلى الشريط .. فلم يستطع أن يرى شيئا .. فتحامل على نفسه والدم ينـزف منه وزحف ببطء ومشقة .. على الرمال وبعد ثلاثين مترا وجد أثر القنابل ..
      وجد حفرة عميقة بجانب الخط ثم شهد القضبان ملتوية وطارت الفلنكات ودعـائم الكوبرى الصغير الذى يمر فوقه القطار فانتفض قلبه .. وارتعش ونظر إلى النجوم .. وقدر أن الساعة بلغت الثامنة مساء وأحس بمثل الخنجر يمزق ظهره .. لأن قطار الركاب سيمر بعد عشر دقائق وتصـور عبد الغنى الكارثة .. عندما تنقلب العربات وتحترق .. فارتعش وصرخ .. وتذكر القطارات الطويلة .. التى تمر بالليل محملة بالمدافع والدبابات والمؤن وتصورها عندما تقترب من هذا المكان وتنقلب عرباتها وقدر ما يصيب الوطن من خسارة فعاد يزحف وهو يتصبب عرقا وينزف دما .. حتى وصل إلى الكشك ومد يده إلى سماعة التليفون فتناولها ولكنه لم يستطع أن ينتصب .. وسقط .. بالسماعة على الأرض .. وجن وعاد يصرخ عندما سمع جرس الإشـارات يدق منـذرا باقتراب القطار . . والسائق لايعرف ما حدث على الخط وما من شخص ينبهه ..
     وحاول عبد الغنى أن يزحف على بطنه .. فلم يستطع أن يتحرك مقدار شبر واحد ، ولكن يده عثرت على شىء فتقلصت عليه ، ونظر إلى الكوخ فوق رأسه وعيدان الحطب بجواره .. ولمعت فى رأسه فكرة ولكنه قرر خطورتها .. لأنه سيحترق مع الكوخ عندما تقترب منه النار ولا يستطيع أن يتحرك ويبتعد عنها .. وتردد لحظات والعرق يتصبب من جسمه المحموم ، ولكنه سمع صفير القطار .. فجن .. وتناول عود الثقاب من جيبه .. وأشعل عودا من الحطب .. ورماه على القش فأشتـعل الكوخ  .. ورأى النور يتوهج ويقلب كل شىء إلى نهار مبصر ..
      وكان القطار يصفر .. ثم لم يعد يسمع صفيره .. وغاب عن الوجود ..
***
     وعندما فتح عينيه .. وجد نفسه فى مستشفى الزقازيق .. والدكتور قاسم بجواره .. وعرف أن الدكتور التقطه فى اللحظة الحاسمة وانتشله من النار وهو مار بسيارته ولما سأل عبد الغنى عن القطار الذى كان يصفر .. وعرف أنه توقف على ضوء النهار قبـل الكوبرى المحطم .. بسبعـة أمتار..!
====================================  
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 25/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971  
====================================  




على النهر

كان المنزل يقع على النهر .. فى حى فم الخليج .. وقد أزيل الآن وأزيلت معالمه وأزيلت المنازل التى كانت بجواره وأصبح المكان ساحة وملعبا للأطفال .. ولكننى ما زلت أتصوره فى مكانه كلما مررت من هناك راكبا الترام الكئيب .. وأتصور أننى جالس .. فى الشرفة أحلم أحلام الصبا .. وأتمنى أعذب الأمانى .. وتحتى الماء يجرى .. وينطح الجدار ..
وكان من ثلاثة طوابق .. وواجهته تبعد من الميدان بمسيرة ثلاث دقائق .. وشرفاته الخلفية تطل على النهر .. وتسبح فيه ..
وكان المطل من شرفاته وقت الفيضان .. فى الليالى القمرية الحالمة يتصور أنه على ظهر سفينة تلعب بها الأمواج والعواصف وقد طويت أشرعتها .. وشد الملاحون مجاديفهم .. واستعدوا للنضال ..
وكنت أسكن فى الطابق الأول منه .. وكان من ثلاث غرف فسيحة منها غرفتان على النهر .. والغرفة الثالثة على الواجهة .. ونافذتها تطل على حديقة صغيرة فى مدخل البيت ..
وكان يسكن فوقى كمال أفندى وأسرته .. أما الطابق الثالث فكان خاليا وينتظر الساكن ..
وكان كمال افندى موظفا فى مصلحة المساحة .. ثم فصل من عمله لسبب لا اعرفه .. ولما كان من أصحاب الحرف .. فقد فتح مصنعا صغيرا لسبك المعادن ..
وكنت لا أشاهده كغيره من سكان الحى جالسا على" القهوة " فى الميدان ساعات الغروب .. لأن العمل كان لا يسمح له بهذا الفراغ .. ولأنه كما يبدو لى كان منطويا قليل الاختلاط بالناس ..
وقد بدأت معرفتى به من لقاء عابر على السلم .. ولما ائتنس بى واستراح إلىَّ أصبح يرسل إلى ابنته " امتثال " كل مساء ويطلب جريدة الصباح ..
وكان فى الخمسين من عمره .. سمينا .. أسمر .. يلبس حلة باهتة لا يغيرها قط ..
وكان عنده أربعة أطفال أكبرهم فى العاشرة .. وكانت زوجته " سكينة " على نقيضه .. بيضاء نحيفة .. وعلى وجهها صفرة مستكنة كأنها تشكو من علة غير ظاهرة .. ولكنها كانت دائبة العمل فى البيت وفى رعاية الأطفال .. ولم يكن عندهم خدم .. وكانت تكنس البيت وترش المدخل المترب .. وما حول حديقتى لأنها كانت تعرف أننى أعيش وحدى ..
وكنت صرافا فى أحد بنوك المال فى حى قصر النيل .. وأعمل فى الصباح وبعد الظهر .. وكان البنك يغلق أبوابه فى يوم الأحد .. وفى هذا اليوم .. كنت أبقي فى البيت إلى ما بعد الظهر .. اتنسم طراوة النهر فى البكور ..
وكان أولاد كمال افندى ينزلون ويلعبون فى الحديقة .. وفى مدخل البيت .. ويصطادون السمك بالسنارة من شرفتى لأن الماء على قيد شبر واحد منها .. وكانت أمهم تخاف عليهم من الغرق .. فكنت أطمئنها .. وإذا أطل زوجها أطمئنه أيضا .. وإذا كان فى حالة نفسية طيبة ينزل ويثرثر معى لمدة ساعة لأنه يوم راحته أيضا ..
وكان فى الأيام الأخيرة قد أخذ يشكو لى بشكل مفزع من الكساد .. وكانت الأزمة العالمية خانقة فى ذلك الوقت .. كنا فى عام 1936 والسوق راكدة .. وكل شىء رخيص ..
وكان يشكو من الديون وتوقف مصنعه عن العمل .. وعدم تصريفه الإنتاج ..
وكنت انصحه بأن يصمد حتى يجتاز هذه المحنة بسلام .. ولكنه كان يائسا .. وكلامى يمر على طبلة أذنه كالنسيم دون أن يحرك له ساكنا ..
وعرفت من حديثه معى أنه على درجة لا بأس بها من الثقافة ومعرفة الحياة .. وأحوال السوق .. وقد أرانى المقابض .. و" الشناكل " التى كان ينتجها فى مصنعه .. وكانت على حالة لا بأس بها من الجودة والإتقان .. وكنت أعجب لماذا لا يصرفها .. فكان يقول لى :
ـ كيف نصرفها .. وما يأتى من الخارج .. ارخص وأحسن من هذا كله الذى تراه ..
وكانت البطالة والكساد .. وسوء الأحوال فى أوربا .. تهبط بمستوى الأجور .. وتجعل كل شىء رخيصا .. فكيف ننافس صناعتهم ..
ومع هذا .. كنت دائما أشجعه على ان يمضـى فى طريقه .. ولابد أن تتحسن الأحوال ..
ولكنه كان يعيش فى دوامة من اليأس القاتل ..
ثم أصبحت أسمع عراكه مع زوجته .. فى الطابق العلوى وصياح الأطفال بعد كل عراك .. ولم يكن من شأنى أن أتدخل .. لأن صلتى بالرجل لم تكن قد بلغت حد الصداقة ..
وكنت أتألم عندما أرى ابنته الكبرى " بهية " واقفة على السلم وهى تبكى .. ولا أستطيع أن أفعل شيئا يمسح عبراتها ..
***
       وانقطعت ابنته امتثال عن طلب " الجورنال " منى .. بضعة أيام .. ثم جاء ابنه طاهر يطلبه .. فلما سألته عن أخته .. قال ببساطة :
-         ماتت ..
قالها الغلام دون تأثر ..
فسقط قلبى من الألم .. وسألته :
-         متى ..؟
-         من يومين ..
وعجبت .. فاننى لم ألاحظ على الأب أى تغيير أو ظاهرة تدل على أنه فقد أحدا من الأسرة .. ولعله استراح لأنه تخلص من عبء ..
أما الأم فكان وجهها سرمديا .. ينطق بالأسى .. والفقر يغشيه بمثل الضباب .. كانت تخفى انفعالاتها .. فلم ألاحظ عليها ما مر بها ..
فلما لقيتها فى اليوم التالى .. وعزيتها .. انخرطت فى البكاء بحرقة .. وكادت تسقط على السلم من التأثر فسندتها حتى صعدت إلى بيتها واستراحت على الكنبة ..
ووقفت بجوارها وهى تبكى وبصرى إلى النافذة المطلة على النهر .. وكانت الشمس ساطعة والأشجار والأزهار مورقة على الشاطئ الآخر .. ولكن هنا فى هذا البيت كنت أحس بجفاف .. وبالفقر الأسود يعصر هذه الأسرة .. عصرا .. وكنت أنظر إلى هذه الأم وأتعجب لصبرها وجلدها .. وكان الرجل كما بدا لى قد فقد أعصابه .. بعد أن طرد من وظيفته .. وأصبح عاجزا عن تصريف الأمور .. وكان سوء حاله يرجع إلى نفسه أولا قبل الظروف المحيطة به .. فانه كان على أى حال يستطيع أن ينتج فى حدود طاقته ليعيش .. ولكنه لم يكن .. يتحرك على الإطلاق .. لأنه كان يدور حول نفسه ..
***
       وذات ليلة .. وجدت رسالة له .. فى صندوق البريد الخاص بى .. فصعدت لأعطيها له .. وفتح هو الباب ..
       وكان جالسا فى الردهة وحوله الأطفال الأربعة .. وعلى وجوههم الجوع القاتل وقال لما رآنى :
       ـ تركتنا .. وهربت .. انظر ..
       فأطرقت تأثرا .. واستطرد :
-         كانت أمها هكذا .. تركت زوجها بعد عشرين سنة .. وهربت مع شاب ..
وها هى ابنتها تكرر نفس العمل ..
واستطرد فى ألم :
ـ أنظر .. إلى الأطفال .. وهل يرضيك هذا .. وهل أدخلها بعد هذا بيتى ..
ولما اقترب منى .. ليقدم لى سيجارة .. شممت رائحة الخمر ..
وأخذ ابنه الصغير مدحت .. يبكى ويصرخ .. وزاد هذا من غضب والده ..
فأخرجت من جيبى عملة فضية جديدة من ذات العشرة قروش ووضعتها فى يد الطفل لاسكته .. وسكت فعلا ..
وسألنى أبوه :
-         ما هذا ..؟
-         فضة جديدة .. ستظهر فى العيد ..
وتناولها .. من الغلام وقلبها فى يده .. ثم ردها له ..
***
ولما خرجت إلى الشارع وجدت السيدة المسكينة عائدة .. وهى تحمل على صدرها لفة كبيرة من الطعام ..
ولما رأتنى لمعت عيناها قليلا ثم انطفأت ..
واستيقظت مرة أخريات الليل على رائحة أشبه بالقصدير المحترق .. وكان الجو حارا والنوافذ كلها مفتوحة .. ولكن لما نظرت من المنور إلى فوق .. رأيت غرفة كمال افندى مضاءة ومغلقة النوافذ والرائحة الغريبة تأتى من هناك .. فأدركت أنه ساهر يقوم ببعض عمله المطلوب منه فى المصنع .. ليستريح من مشقة العمل فى قيظ النهار ..
***
ومررت ظهر يوم وأنا نازل من الترام .. على بقال فى الشارع لأشترى منه علبة سجائر .. فوجدت السيدة " سكينة " واقفة ومعها طفلها والبقال يقول لها :
ـ أسف يا ستى .. ما قدرش أديكم حاجة تانى لما تدفعوا .. الشهر اللى فات ..
واحمر وجهها .. وابتعدت حتى لا ترانى فيزداد خجلها ..
ولما دخلت البيت لحقت بها .. وأخرجت جنيها ووضعته فى يد طفلها فرفضت بعصبية وردته إلىَّ .. ولكنى تغلبت عليها .. وأعدته للغلام على أن ترده بعد شهر .. ورأيت دمعة تحيرت على خدها .. وهى صاعدة بالطفل .. ولم أر هذا الدر يتجمد على خد أنثى .. طول حياتى ..
وفى نفس الليلة رأيت هذا الجنيه فى يد كمال أفندى .. وكان يشترى به زجاجة خمر من حانة فى الميدان ..
وبعد غروب يوم وكنا اقتربنا من العيد شممت نفس الرائحة الغريبة من المنور وسمعت كمال أفندى يسعل بشدة .. حتى تصورت أن روحه طالعة .. ولم أسمع صوت زوجته .. أو أطفاله .. فصعدت إليه .. ونقرت على بابه .. فلم يفتح .. إلا بعد أن أعدت النقر مرات .. ورأيته لأول مرة يفتح الباب بحذر المستريب .. ولما وقع نظره علىّ .. تجهم وجهه ثم اعتذر لأنه كان نائما .. ولم يدعنى للدخول أو شرب القهوة .. ووقفت مرتبكا صامتا فقلت له أننى جئت لأطمئن عليه وانصرفت ..
***
وعدت ذات ليلة من الخارج مبكرا .. لأننى كنت أفكر فى رحلة قصيرة إلى القناطر فى بكرة الصباح .. وقبل أن أضع رأسى على الفراش .. سمعت صرخة فى شقة كمال أفندى .. فجريت بمنامتى إلى هناك .. ودفعت الباب .. ووجدت زوجته سكينة تطير إلى النافذة لتلقى بكيس فى يدها .. وكمال أفندى يمنعها بعنف .. ويحاول أن يلقيها على الأرض .. ولما رأتنى أبدت حركة سريعة .. وألقت بما فى يدها إلى الماء .. فاستدار زوجها كالمجنون .. وأمسك بسكين حادة .. وتقدم نحوها والشرر يتطاير من عينيه .. فجريت وتلقيته على صدرى .. وحاولت القبض على السكين ولكنه طعننى طعنة فسقطت على الأرض .. ثم رأيته فى مثل لمح الطرف .. يهوى بجـوارى .. وطـارت قطعة الحديد التى ضـربته بهـا " سكينة " .. وارتطمت بالجدار..
***
       وتحاملت على نفسى حتى جلست ورأيت فى أثناء هذه الحركة .. شيئا يلمع على الأرض .. ولاشك أنها سقطت من الكيس .. التى كانت زوجته تتجاذبه معه .. فانحنيت ووضعتها فى جيبى ..
       ونظرت إلى سكينة .. فوجدتها واقفة هناك .. قرب النافذة .. تنظر إلينا .. وإلى نهر الحياة .. المتدفق .. تحتنا .. دون أن تبكى أو تبدى حركة ..
***
       وعندما جاءت عربة الإسعاف لتحمل الرجل .. رفضت أن أركب معه .. وقلت لهم أن جرحى سيعالج فى البيت ..
       وحملوه وذهبوا به إلى المستشفى ورأيت وأنا خارج سكينة تمسك بالمكنسة ..
       وكانت تود أن تقول لى شيئا وأنا نازل والدم لا يزال يقطر منى .. ولكنها تجلدت كعادتها وغالبت عواطفها .. وكنت أكثر جلدا منها .. فهبطت الدرجات صامتا ..
       وعلى ضوء المصباح أخرجت القطعة ذات العشرة قروش من جيبى ونظرت إليها طويلا .. كانت شبيهة بالتى أعطيتها للغلام ومتقنة التزييف إلى حد بعيد .. وطوحت بها فى النهر ..





=========================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 327 بتاريخ 29/4/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " سنة 1971
==========================

                   




اسم القصة                       رقم الصفحة
صقر الليل  ..............................  2                    
ليلة العاصفة      ....................     12
الخفير     ......................          22
التمثال   ............................ ..   27
فى الليل وحدى   ...............  .       32
سونيا الجميلة ..................          38
الجواد والفارس        ..........         57
الأصبع التى تشير  ...............        62
فى المتجر  ...............   ..           67
ليلة فى شنغهاى .......... .............  76
الأصلع  ...............................   82
وقفة فى الضوء    ............           90
الإعلان    .............................. 101
رحلة إلى بحر الزمرد...................  108
الظل   ..............    .....            124
الجريح   ...................             130
على النهر   ..................           133